الاشتراك بالفايسبوك أشبه بشراء تذكرة لمشاهدة فيلم سينمائي، ما إن تلتحق بصالة العرض حتى يتم التخفيف من حدة إضاءة العالم منحولك، ويتحول تركيزك كله نحو أحداث الفيلم، وتتحول حقيقة شخصياته إلى مجرد تمثيل، نعم خلف الشاشة الجميع يجيد الانسلاخ من جلدواقعه، ليبدأ في التظاهر بغير حقيقته، فترى أناسا سعداء لكنهم أتعس مما نتصور، وترى آخرين تعساء وهم في الحقيقة سعداء. تلتقيأناسا يقدمون لك ابتسامات كاذبة وهم في الحقيقة لا يتحملون سعادتك أو ربما يكرهونك، ومنهم من يرسل لك أخرى صفراء متهكمة أويكتفون بالضغط على زر الإعجاب الزائف إرضاء للغير..
وكأي فيلم في بدايته، سيجذبك لتتابع التتمة، فتندهش بمن يلعب دور الضحية، يذرف دموعا رقمية و يؤلف قصصا مأساوية عن الظلم، لكنهفي الحقيقة مجرد انتهازي، ومخادع يجيد رياضة استغلال الضعفاء والقفز على مآسي المستضعفين، وقد تجد من بين هؤلاء من يرحل عنمكتبه باكرا، تاركا خلفه ملفات المواطنين مبعثرة بدرج مكتبه، الآلاف منها كُتبت بدموعهم وقلة حيلتهم، تحمل بين طياتها تفاصيل معاناتهم..يتركها منسية هناك دون أدنى اهتمام ليمد جسمه المنتفخ كسلا أمام هاتفه، ويشرع في الاحتجاج عبر جدران هذا الفضاء، ويحدثنا عنوجع المعاناة ويقدم لنا دروسا عن صحوة الضمير و التضحية، لكن هل يعلم معنى الوجع من يحول دموع الغير إلى حبر يكتب به دروسا عننصرة المظلوم؟
ثم تتالى مشاهد الفيلم أمامك وتتسلسل، لتصادف من يلعب دور المناضل، وهو بطل افتراضي يدين ويشجب في كل وقت وحين، أو الحداثيالإصلاحي الذي يعتبر صفحته دليلا لتقييم كل ما هو مشروع ويتحدث دائما عن التغيير، أو من يسمون أنفسهم نخبة المثقفين ومنهم من لايجيد سوى فتح فيه ليناقش بعصبية وجمود فكري، وفي حقيقة الأمر كل هؤلاء مجرد ضحايا للتبعية والركض وراء “زئير” مزيف، يتحدثونولا ينصتون، ينصحون ولا يطبقون، ينشرون الخبر ولا يعلمون ماهيته ..يناقشونه ولا يفهمونه، يطالبون بشيء ولا يؤمنون به، لا يفرقون بينحقوقهم وأمنياتهم، بين أدائهم للواجبات أو الخنوع والتملق بذل لخدمة الظالمين، لا فرق بالنسبة لهم بين الخلاف والاختلاف ولا بين السب والنقد ولا بين الحرية والفوضى، ولا حتى بين حقيقتهم وما يدعون، يصنعون لأنفسهم بعض الأفكار والمبادئ الوهمية يرتدونها ثوبا عندما يحينوقت زيارتهم للموقع، ثم يعلقونها جانبا عند أول موقف إنساني لهم بالعالم الحقيقي، تماما كمن يدعي التقوى والمعرفة الدينية بارتدائه جلباباأثناء دخوله المسجد وهو لا يعلم حتى معنى السجود.
هذا الفضاء الذي لا يصلح لشيء سوى لتأكيد أننا نحب الزيف ونعشق الخداع، فلو أتيحت لنا الفرصة في العالم الحقيقي كما بالعالمالأزرق لنمحو بعض تفاصيلنا وهفواتنا وزلاتنا ونتظاهر بالمثالية والرقي، ونُظهر للغير تسامحا أكبر لفعلنا ذلك. فضاء أغلب مستخدميهيعتبرون أنفسهم حراسا لأبواب المعابد و ملائكة الجنة، وأن تدويناتهم كتعاويذ ربانية تعالج الأزمات وتختفي معها جميع الآفات والظواهرالتي تثقل كاهل المجتمع ..
فسخط البعض عن مواقفك وآرائك بإرسال عاصفة من الوجوه الغاضبة، يعتبر مثل لعنة إلهية ستحل عليك وتحول أصابعك التي ظننتها ذهبيةإلى حصى، فيما يعد الإعجاب بمثابة صك من صكوك الغفران التي يوزعونها يوميا، فإن أحبوا تدويناتك سيشملك رضى “اللايك” لتعيشبسلام فايسبوكي وتتجول بأمان بين جدران قداستهم، وإن هم كرهوا أحد آرائك ستتساقط فوق هضاب رأسك الخصبة أمطار غضب غزيرة،وتجرفك سيول التبليغات الكثيفة التي يتضرعون ويستنجدون بها في انتظار أن ترسل لك آلهة فايسبوكية، ملاك الحظر لتتوب عن خطاياك أويتم تشييع جنازة صفحتك إلى مثواها الأخير.
و إن كنا لا نستطع أن نجحد ما قدمه لنا هذا الفضاء من خدمات، حيث إنه قرب المسافات وجعل أخبار البعيدين عنا متاحة في ظرف زمنيوجيز، فإننا لا نستطيع أن ننكر، في الوقت نفسه، أنه جعلنا نجلس بقرب بعضنا أو نتشارك الغطاء ذاته والمسافات الرقمية تتسع بيننا، نعبرعن أحاسيس مزيفة لبعضنا البعض، بل وأصبحنا أكثر انشغالا عن بعض وأكثر جرأة من اللازم في تعاملاتنا، وفي بعض الأحيان بُلهاءبأفكارنا، نحب العبث ونؤمن به حد الوقاحة، حتى أننا نزعنا تماما ثوب حياة الإنسانية الأنيق و ارتدينا مكانه زي التنكر الفايسبوكي لعل رايةالمثالية ترفرف بدواخلنا، وتعلن نشأة المدينة الفاضلة هناك.
ورغم اعتباره نشاطا خارجا عن المألوف بالنسبة لحياتنا العادية، إلا أنه نجح في اقتحام روتيننا اليومي، ليصبح جزءا لا يتجزأ منه، بل متنفسا مُهما للتعبير عن معاناتنا وتعرية بعضهم لسيقان الواقع بكل حرية، رغم ما ينهال عليهم من أسهم الانتقادات العشوائية وحجارةالسب والقذف، تماما كما يقذف الجاهل من عرت سيقانها بالشارع ظنا منه أنه ملاك منزل.
وكل ما سبق، لا يعني أنه لم يصبح فسحة لبعض المضطربين نفسيا، من لم يترك لهم ادعاء المثالية بالعالم الواقعي المجال لنفت سمومهموإشباع نزوات خوفهم وضعفهم وعزلتهم، فالعجز عن البوح بها دون أقنعة جعلهم يستغلون حرية الحسابات المزيفة بدل مثاليتهم المزيفةبطريقة خاطئة، وغير لائقة لإفراغ قيئهم، وطرح نفايات فكرهم فوق الصفحات، فالبشر لا يستطيعون التجول بالشوارع في أي وقت والترنحبدون حسيب ولا رقيب بـ“بروفايلات” وجوهها طيبة وقلوبها فاسدة، تنتهك خصوصية الغير وتعبث بمشاعرهم، وذلك للاحتفال بانتصاراتافتراضية فقط.
هنا بزاوية من زوايا صالة العرض، وأنت تتأمل كل هذه الصور البراقة التي رسمها الجميع لنفسه، الكل يتحدث عن الصواب ولا أحد يرىالخطأ أو يعترف بارتكاب أبسطه، كأن الخطأ مجرد أكذوبة..هنا حتما ستقول إنه كان من الأجدر بمؤسس هذا الموقع وكجميع الأفلام التيتبدأ بعبارة: “جميع أحداث هذا الفيلم وشخصياته من وحي الخيال وأي تشابه بينها وبين الواقع هو محض الصدفة” أن يضع على باب هذاالجدار الصغير الذي اخترعه لكي نختبئ وراء زيفه عبارة “أغلب المواقف والآراء المتداولة هنا منقولة عن الغير ولا تعبر عن مواقف شخصيةولا تمثل أصحابها أو تمت لواقعهم بأي صلة وهي نفاق محض“.