تضع الرغبة الجامحة للجزائر في استغلال أزمة الغاز الأوروبية علاقاتها مع روسيا على المحك وهو ما دفعها إلى مهادنتها برفض توصيف مرتزقة فاغنر الذين أرسلتهم موسكو إلى مالي بطلب من المجلس العسكري في باماكو بالمرتزقة ما يعطي انطباعا بأن الحكومة الجزائرية تحاول تفادي إغضاب روسيا التي تلعب ورقة الغاز في ما يشبه ابتزاز القارة العجوز والغرب في الأزمة الأوكرانية.
باتت الجزائر تمثل ملاذا ملائما لتأمين إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا، في ظل المخاوف من دخول التهديدات الروسية حيز التنفيذ، نظير القبضة الحديدية التي تجمع الأوروبيين والروس في الأزمة الأوكرانية، المرشحة لأن تكون نذير أزمة غذاء وطاقة في العالم، غير أن حاجة الجزائر إلى المزيد من العائدات لخزينتها بضخ كميات إضافية من الغاز إلى الأسواق الأوروبية، تصطدم بثقل روسي على توجهاتها الاقتصادية والسياسية بسبب العلاقات التاريخية بين الطرفين.
ورفض وزير الخارجية والتعاون الدولي الجزائري رمطان لعمامرة، وصف العناصر الروسية المسلحة المتواجدة في التراب المالي بـ”المرتزقة”، في ردّه على سؤال لوسائل إعلام فرنسية استضافته في أديس أبابا، على هامش انعقاد قمة رؤساء وقادة دول الاتحاد الأفريقي.
وألمح رئيس الدبلوماسية الجزائرية، إلى أن بلاده مستعدة للتعاون مع جميع الشركاء بما في ذلك روسيا والصين وفرنسا، وهو ما يوحي إلى أن الجزائر مستعدة لتقديم تنازلات ترضي جميع الأطراف من أجل تحقيق علاقات متوازنة تكفل لها الحفاظ ودعم مصالحها الاستراتيجية.
مع حاجة الجزائر لتحقيق عائدات إضافية من العملة الصعبة إلى خزينتها فإن الموقف الروسي يبقى الحاجز أمام تحقيق رغبتها
وإذ تنحصر التنازلات المقصودة في تصريح لعمامرة، في فتح المجال الجوي أمام الشركاء المذكورين للوصول إلى منطقة الساحل الأفريقي، فإنها تمهّد الطريق لدعم مصالحها مع كل طرف على حدة مع تنوعها وتعددها، ولذلك يبدو أن الجزائر لا تريد وضع بيضها في سلة واحدة.
ومع تصريحه بأن العلاقات الجزائرية الفرنسية في مرحلة تصاعد بعد الأزمة التي خيمت عليها خلال الأشهر الماضية، فإنه دافع عن تعاون بلاده مع الروس، ورفض وصف قوات فاغنز بـ”المرتزقة”، وهي الخدمة التي تنتظر منها الجزائر تفهم موسكو لأن تكون ملاذا لدول أوروبية في حالة حاجتها إلى المزيد من تدفقات الغاز الطبيعي، في ظل التوتر القائم بينها وبين روسيا.
وتعتبر الجزائر من أكبر الموردين لأوروبا بالطاقة، خاصة بالنسبة إلى إيطاليا وإسبانيا والبرتغال واليونان، غير أن تعطيل الإمداد بالأنبوب المغاربي بسبب الأزمة القائمة بين الجزائر والمغرب، يطرح إشكاليات ضخ حقيقية تقلص من فرص اعتماد أوروبا على الغاز الجزائري، إلا في حال مراجعة الأزمة المذكورة.
وإذا كانت مدريد قد عبّرت عن استعدادها لتأمين إمداد عكسي للمغرب عبر الأنبوب المذكور لضمان حاجيات الرباط من كميات الطاقة التي يحتاجها، فإن تطورات الأزمة الأوكرانية قد تدفع الأوروبيين إلى مراجعة حساباتهم في هذا المجال ووضع حاجياتهم الداخلية في صدارة الأولويات، لأن دخول التهديدات الطاقوية الروسية قد تدخلهم في حسابات دقيقة.
لكن خبراء في الطاقة يرون بأنه مهما كانت المعوقات الموضوعية الناجمة عن إمكانيات الضخ، بسبب شلل الأنبوب المغاربي، وعدم تلبية أنبوب البحر المتوسط لحاجيات إسبانيا لوحدها رغم الإضافات التي أدرجت عليه، فإنه بالإمكان أن تكون عامل تخفيف للأزمة المرتقبة، خاصة مع إمكانيات التزويد بالبواخر التي اعتمدت عليها في تأمين حاجة إسبانيا من الطاقة.
ومع حاجة الجزائر إلى تحقيق عائدات إضافية من العملة الصعبة إلى خزينتها والاستفادة من فرصة الضخ والأسعار المرتفعة للغاز الطبيعي، في ظل تقلص مواردها على مدار السنوات الأخيرة، فإن الموقف الروسي يبقى الحاجز الرئيسي أمام تحقيق رغبتها، لأن الضغوط الروسية تبقى قائمة رغم التنازلات التي قدمتها لهم، سواء بتزكية التواجد على الأراضي المالية، أو استعمال المجال الجوي، أو صفقات التسليح.
ويبدو أن تصريح وزير الخارجية والتعاون الدولي رمطان لعمامرة، الذي عبر فيه عن استعداد بلاده للتعاون مع جميع الأطراف والشركاء، وأعرب من خلاله عن فتح المجال الجوي مجددا أمام الطيران العسكري الفرنسي، كما هو الشأن بالنسبة إلى الروس والصينيين، هو رسالة واضحة عن تعدد المصالح وعدم التخندق مع هذا الطرف على حساب ذاك.
وكانت إدارة شركة سوناطراك الحكومية المحتكرة لقطاع الطاقة في البلاد، قد أعلنت مؤخرا عن تسجيل زيادة في الإنتاج خلال العام المنقضي قدر بخمسة في المئة، كما عادت الكميات المصدرة من النفط لتقارب سقف مليون برميل يوميا، بعد استفادتها من عودة الكمية المقلصة وفقا لقرارات منظمة الأوبك، وهو ما يحقق لها مداخيل إضافية تراهن عليها كثيرا لإنعاش اقتصادها المختنق.
لكن رهان الجزائر على الغاز لن يكون طويل الأمد، في ظل تراجع المخزونات الباطنية والشيخوخة الزاحفة على الآبار العاملة، فضلا على آليات وتكنولوجيات الحفر والتجديد، بعد العزلة الطاقوية التي دخلتها منذ سنوات لأسباب مختلفة، أهمها المنظومة التشريعية غير المستقرة، المتراوحة بين الانفتاح والشراكات المباشرة وبين الحفاظ على السيادة الوطنية على الثروات الباطنية، الأمر الذي يجعلها ملاذا مؤقتا، إلا في حال التوجه إلى إنتاج الغاز الصخري المثير للجدل.
وكان مسؤولون سابقون في قطاع الطاقة، على غرار الوزير عبدالمجيد عطار، قد ألمح إلى أن بلاده، لن تكون في المستقبل القريب عضوا في منظمة الدول المصدرة للنفط، لأن المؤشرات المتوفرة توحي إلى تراجع قدرات التصدير بسبب تقلص الإنتاج وتنامي الطلب الداخلي، ولذلك فإن المستقبل القريب سيكون لتوفير الحاجيات الداخلية، وهو ما شكل صدمة داخلية خاصة لدى النخب السياسية الحاكمة.
ويذكر مختصون بأن الجزائر ستراهن على الكميات التي كانت تضخ للسوق المغربية في شكل حقوق عبور أو تصدير، والمقدرة بنحو مليار متر مكعب سنويا، يمكن توجيهها إلى أسواق أخرى، وقد تكون كميات إضافية لدول أوروبا الجنوبية.
وترتبط شركة سوناطراك، باتفاق مع شركة غازبروم الروسية أبرم شهر سبتمبر الماضي، يتمحور حول إنتاج ونقل الغاز، وينتظر تطوير أكبر حقل في البلاد (حاسي مسعود) بين الشركتين كي يكون جاهزا بعد ثلاث سنوات.