لطالما كان موضوع المهاجرين مركز اهتمام رئيسي خلال الحملات الانتخابية الفرنسية، ولكن لم يسبق أن تعاملت حملة انتخابية بشكل غير متناسب مع المخاوف المتعلقة بالهجرة والهوية كما هو الحال حاليًّا.
قبل أقل من ثلاثة أشهر من توجه الناخبين الفرنسيين إلى صناديق الاقتراع لاختيار رئيسهم، يسعى المرشحون الشعبويون والانتهازيون للتأكيد على العلاقة بين المخاوف المرتبطة بالهجرة ودواعي الانشغال بمصير “الهوية الفرنسية”، وذلك على خلفية ما يصفه الكاتبان جورج مالبرونو وكريستيان شينو بتراجع المكانة الفرنسية في العالم.
في هذا الإطار ما انفك اليمين المتطرف يسعى لكسب أصوات الناخبين من خلال التركيز في محطات الحملة على المخاطر التي تترتب عن الهجرة الأجنبية سواء على صعيد المنافسة على شواغر العمل أو على معدلات الجريمة في فرنسا.
استعار أحد مرشحي أقصى اليمين إيريك زمور صفحة من تاريخ الحملة على المسلمين واليهود في إسبانيا بعد سقوط الأندلس بوضع حملته تحت اسم “لا روكنكيستا”، في محاولة منه للمزايدة على منافسته، مرشحة أقصى اليمين مارين لوبان باعتبارها حاملة لواء الحركة المعادية للمهاجرين. في سبتمبر بلغ الأمر بزمور، وإن كان سليل عائلة منحدرة من أصول يهودية جزائرية، إلى حد وصف الجرائم بأنها نوع من أنواع “الجهاد” تقدم عليه أحياء مسلمة تتحدى سلطة الدولة الفرنسية. (وقد أدانت إحدى المحاكم زمور مؤخرا بتهمة العنصرية لتصريحات مشابهة).
وحتى مرشحة اليمين التقليدي فاليري بيكراس التحقت بجوقة المحذرين من الهجرة مصرحة بأن “هناك علاقة بين الهجرة والإجرام”، حتى وإن كان خمس السكان في منطقة “إيل دو فرانس” التي ترأسها من المهاجرين.
لا يمكن للحسابات السياسية قصيرة الأمد أن تشكل أسس علاقات صلبة بين فرنسا وبلدان المغرب العربي. كما أن التيارات الشعبوية لا يمكنها أن تكون عماد الديمقراطية والحياة السياسية
هذه النبرة الحادة لم تكن حكراً على المرشحين الذين يعزفون على نغمة الشعبوية فقط. فالرئيس إيمانويل ماكرون ندد بما وصفه بتشكل “مجموعات منغلقة” من المهاجرين (وصفهم لاحقاً بـ”الانفصاليين الإسلاميين”) قائلاً إن هؤلاء يمثلون خطراً على القيم العلمانية للجمهورية. وفي العديد من الأحيان لم تترك عبارات التنديد والنبرة المتوترة الطاغية على النقاشات بخصوص هذا الموضوع مكاناً لمناقشة هادئة للأسباب العميقة التي تقف خلف مشكلة التهميش في ضواحي المدن الكبرى.
والملفت أن هذا الربط بين الهجرة والهوية ليس بهذا الوضوح لدى الرأي العام، خارج نطاق نقاشات أهل السياسة والإعلام. وقد أظهرت استطلاعات الرأي أن موضوع الهجرة لا يحتل المرتبة الأولى بين شواغل الفرنسيين مثل مسألتي تراجع القدرة الشرائية وانعدام الأمن. وذكر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة إيفوب أن أول مشاغل الناخبين هو الاقتصاد المتعثر واهتراء النسيج الصناعي والبطالة والمديونية، قبل موضوع الهجرة. وأظهر استطلاع الرأي كذلك أن اللغة الفرنسية هي العامل المحدد الأول للهوية الفرنسية وأن رموز الهوية تشمل شخصيات مثل شارل ديغول وفولتير ولاعب كرة القدم من أصل جزائري زين الدين زيدان.
وإذا نجح المرشحون الشعبويون في جعل الهجرة مرادفاً لكبرى مشاكل فرنسا فإن ذلك يعود في جزء كبير منه إلى التدوير السياسي والإعلامي اللامتناهي، الذي يعطي في الكثير من الأحيان الانطباع بأن فرنسا قد غرقت تحت وطأة الموجات العارمة من المهاجرين حتى وإن كانت الأرقام تقول غير ذلك.
ولكن هناك معطيات موضوعية على أرض الواقع ليست لها علاقة فقط بالانطباعات الإعلامية والسياسية التي تحيط بموضوع الهجرة. فالأغلبية الساحقة من المسلمين الفرنسيين، الذين لا مشكلة لهم مع الحداثة أو العلمانية، يجدون أنفسهم بين ضغوط متناقضة، فهم يشعرون بالانزعاج من جو التحريض على المسلمين والخلط بين الدين الإسلامي وتطرف الإسلاميين. ولكنهم يواجهون أيضا الانعكاسات المتأتية من مظاهر التطرف التي تسجل بين أفراد الجاليات الإسلامية ومن بينها الأعمال الإرهابية التي غذَّت نعرات أقصى اليمين خلال السنوات الأخيرة ووضعت الحكومة الفرنسية في موقع دفاعي على الساحة السياسية. وكانت هناك أيضا تصرفات يراها الجمهور الفرنسي استفزازية من قبل بعض الأفراد المسلمين الذين كان البعض منهم يعبر أحيانا عن مواقف متطرفة على المنصات الإلكترونية ومنهم من كان يصر على تأدية الصلاة وسط شوارع المدن، عندما كانت هناك خلافات مع السلطات المحلية حول أماكن العبادة.
كانت بعض هذه المشاكل في حد ذاتها تعكس المصاعب التي كان يصطدم بها اندماج المهاجرين وكذلك تأثير الشبكات المتطرفة العابرة للحدود على البعض من هؤلاء. ولكن البحث عن جذور المشاكل لم يكن يهم السياسيين والمعلقين إلا قليلا.
الكثير من المواقف المعلنة لم تأخذ بعين الاعتبار أن المسلمين الفرنسيين والفرنسيين من أصل مغاربي هم من بين الناخبين الذين سوف يصوتون في انتخابات أبريل القادم
على هذه الخلفية سعى أصحاب القرار لإظهار تشددهم تجاه حكومات المغرب العربي على صعيد ترحيل المهاجرين غير الشرعيين والمتطرفين من أصول مغاربية إلى أوطانهم. ويبدو أن التخفيض الكبير في التأشيرات الممنوحة للمغاربة والجزائريين والتونسيين يعطي الأولوية للسياسة في الداخل على الاعتبارات الدبلوماسية، في حين شعرت الحكومات المغاربية بأن فرض عمليات الترحيل الجماعية لن يؤدي إلا إلى تفاقم الضغوط الداخلية في بلدانها.
وإذا كانت الإجراءات الفرنسية ترمي إلى إبراز جدية السلطات في التعامل مع الهجرة غير الشرعية وظاهرة التطرف فإنها جعلت الكثيرين في المغرب العربي يتساءلون عما إذا كانت العلاقات مع بلدانهم تعني شيئاً بالنسبة إلى باريس.
الكثير من المواقف المعلنة لم تأخذ بعين الاعتبار أن المسلمين الفرنسيين والفرنسيين من أصل مغاربي هم من بين الناخبين الذين سوف يصوتون في انتخابات أبريل القادم حتى وإن كان تأثيرهم محدوداً نتيجة ضعف تنظيمهم السياسي.
كما أن الخطاب المعادي للمهاجرين يتناسى وجود الآلاف من الكوادر الطبية والمهندسين من بلدان المغرب العربي وبقية بلدان المنطقة العربية، ولئن كانوا يشغلون وظائف حيوية في فرنسا فإنه يراد لهم أن يبقوا في الخفاء ما دامت الحملة الانتخابية مستمرة، حتى وإن بدا دور الأطباء من بلدان المغرب العربي جلياً في مستشفيات فرنسا خلال الجائحة.
الخطاب الشعبوي المناهض للمهاجرين يرسم صورة لفرنسا تناقض إرث فكر الأنوار الذي يمثله فيلم “فولتير”. كما أنه يحمل تداعيات سياسية غير متوقعة على المنطقة المغاربية، حيث يمكنه فقط تأجيج الغوغائية المناهضة للفرنسيين ومحاولات إحياء الأحقاد التاريخية عند البعض.
في الوقت الحالي تبدو الروايات المعادية للفرنسية في المنطقة المغاربية جوفاء، لاسيما بين الشباب الذين يرون في فرنسا وجهتهم المفضلة للهجرة.
وبمجرد انتهاء الانتخابات سيعود الفرنسيون وسيباشرون أعمالهم في الترويج للفرانكفونية والدفاع عنها في المنطقة المغاربية والتنافس مع الأميركيين والأتراك والصينيين على أسواق شمال أفريقيا. كما أن جمهور المغرب العربي سيواصل مشاهدة القنوات التلفزيونية الفرنسية قبل غيرها.
في نهاية التحليل لا يمكن للحسابات السياسية قصيرة الأمد أن تشكل أسس علاقات صلبة بين فرنسا وبلدان المغرب العربي. كما أن التيارات الشعبوية لا يمكنها أن تكون عماد الديمقراطية والحياة السياسية في أي من البلدان على ضفتي المتوسط.