الموقف الشعبي الجزائري من القضية الفلسطينية، مثله مثل كل موقف شعبي عربي آخر، يدعم الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، وينتصر لكل أشكال المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ويعتبر حل الدولتين على أساس الشرعية الدولية هو أقل الأقل في ما يتعين أن يُمكن.
السؤال الذي يواجه دعوة الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون لعقد ندوة حوار بين الفصائل الفلسطينية هو ماذا يمكن للجزائر أن تقدم لرأب الصدع بين هذه الفصائل مما لم تقدمه مصر، ومما لم تقدمه العشرات من الجهود التي نهضت بها دول أخرى؟
الجواب، لا شيء تقريبا. حتى الـ100 مليون دولار التي قدمها الرئيس تبون للرئيس الفلسطيني محمود عباس، كان غيره قدم أكثر منها، إلا أنها لم تكفِ.
هناك ثلاثة عوامل يحسن بالجزائر أن تنتبه إليها، في محيط هذه الدعوة، لكي يمكن أن تجعل منها دعوة تقصد عنوانها، لا عناوين أخرى في جوارها. أو بعبارة أخرى لكي لا تكون قصة “إياك أعني واسمع يا جار”.
أنظر إلى فلسطينيي القدس، واسأل نفسك كيف تجعلهم يصمدون على أرضهم ويحافظون على منازلهم، وكيف يوفرون لأنفسهم عيشا كريما، ولأطفالهم رعاية صحية وتعليما مناسبا، وكيف نشتري منهم ما يصنعون وما يزرعون
الأول، هو أن تحركها باتجاه القضية الفلسطينية لا يقصد المزايدة على أي أحد. أي أنه منهج قائم بذاته، يستهدف تقديم الدعم للفلسطينيين لكي ينهضوا بواجباتهم الوطنية على أساس استراتيجية وطنية واضحة.
بقولٍ آخر، فإن الجزائر لا تقصد المتاجرة بالقضية الفلسطينية، كما ظل يفعل غيرها لعقود طويلة حتى انتهت بالإفلاس المشترك للمتاجرين وللقضية نفسها. كما أنها لا تقصد المتاجرة بهذه القضية في مواجهة المغرب، لكي تكسب من وراء ذلك شرعية مزيفة لسياسات استعداء ليس لها مبرر.
والثاني، هو أن نظام الرئيس تبون لا يريد أن يزايد بالقضية الفلسطينية على شعبه نفسه الذي ما يزال يطالب بالإصلاح ويرفض الاعتراف بشرعية المؤسسة الحاكمة القائمة.
القضية الفلسطينية كسلعة مزايدات داخلية اُستهلكت تماما. صحيح أن أنظمة طغيان عديدة ظلت تستخدمها كتعلة للاستبداد الداخلي لعدة عقود، إلا أن هذه السلعة سقطت من الاعتبارات الشعبية منذ أن افتضح أمرها كغطاء مهلهل لتلك الأنظمة التي ظلت ترفع شعار “كل شيء من أجل المعركة” حتى خسرنا كل شيء ولم نكسب المعركة.
وليس من المعقول أن يأتي الرئيس تبون من آخر الزمان لكي يعيد استخدام القضية الفلسطينية لغرض فاسد، بعد طول استخدام فاسد، حتى انتهى في كل مكان بفضيحة في أعين الناس كافة.
أما الثالث، فهو أن الدعوة لا تقصد أن تزايد بين الفلسطينيين على الفلسطينيين أنفسهم.
ما يتعين أن يكون حقيقيا وصادقا، هو أن تأخذ الدعوة إلى المصالحة بالاعتبار ليس قضايا الخلاف بين الفصائل الفلسطينية وحدها، وإنما ثلاث قضايا أهم:
أولا، ما إذا كان يمكن التوافق على خطوط مشتركة.
ثانيا، ما إذا كان يمكن لهذه الخطوط أن تتحول إلى أدوات تنفيذية.
ثالثا، ما إذا كانت تخدم صمود الشعب الفلسطيني نفسه، لا “صمود” منظماته عليه.
ولن يكون مفاجئا لأحد، من بعد ذلك، أن تكتشف الرئاسة الجزائرية أن الدعوة:
أولا، لم تأت بجديد على الجهود التي بذلتها مصر على وجه الخصوص.
ثانيا، أن تجد نفسها على شقاق مع الطرفين الرئيسيين في الانقسام الفلسطيني (فتح وحماس) في آن معا، لأن بعض تصوراتها لا تتناسب مع هذا، وبعضها الآخر لا يتناسب مع ذاك.
ثالثا، أن أصل العلة موجود في هذين الطرفين نفسيهما. فهما بدورهما يتاجران بالانقسام والمصالحة كما لم يتاجرا بأي شيء آخر. كما أنهما يسلكان المسلك الاستبدادي نفسه، ولا يستطيعان التخلي عنه. وكلٌّ منهما يتغطى بمفضوح أو مهلهل.
لقد سبق للطرفين أن وقّعا على اتفاق مصالحة. وظل المبعوثون المصريون “رايح جاي” بين رام والله وغزة، لكي يجمعوا كل الفصائل على اتفاق شامل. حتى انتهوا إلى القاهرة، فوقعوا اتفاقا يقضي بإجراء انتخابات لإعادة بناء مؤسسة السلطة الوطنية، ولكن لم يمض وقت طويل حتى “خوزق” الرئيس عباس الاتفاق وألغى الانتخابات.
الآن، من أين يمكن لندوة الجزائر أن تبدأ؟ أمن اتفاق جديد لإجراء انتخابات سوف يعود الرئيس عباس ليخوزقه مجددا؟ أم من استراتيجية وطنية لم يجد الطرفان سبيلا للتوافق عليها؟ أم من إعادة بناء شكلية لمؤسسة السلطة لتقاسم النفوذ والمصالحة بين فتح وحماس، وهي النظرية التي يدافع عنها الرئيس عباس لكي يكسب البقاء في السلطة؟
حديث أوساط الرئاسة الجزائرية عن “دعم المقاومة” يحتاج توضيحا من خارج الكلام الفارغ، يبدأ من التعريف ما هي المقاومة المقصودة؟
فإذا قيل شيءٌ أو آخر، فإنه سوف يصطدم بأحد ثلاثة: برفض طرف، أو باللاواقعية، أو بالمعايير المقبولة دوليا.
ثقة الجزائر بالرئيس عباس لا مبرر لها أصلا. فهذا الرجل ليس سوى ضابط أمن إسرائيلي، يدير مؤسسة فساد ورجال أعمال باعوا القضية الفلسطينية، ويريد أن يبقى في السلطة إلى الأبد، من دون أن يلاحظ أنه قاد قضية شعبه من فشل إلى فشل.
نظام الرئيس تبون لا يريد أن يزايد بالقضية الفلسطينية على شعبه نفسه الذي ما يزال يطالب بالإصلاح ويرفض الاعتراف بشرعية المؤسسة الحاكمة القائمة
وحماس ليست حركة مقاومة. هذا عنوان منافق. لأنها تغطي بالسلاح استبدادا داخليا، لا يختلف عن أي استبداد آخر يتخذ من المقاومة غطاء. دع عنك أن هذه الحركة تنظيم أيديولوجي، وليس من العجب على الإطلاق أن شقيقه في أراضي 48 شريك في حكومة الائتلاف الإسرائيلي، مع نفتالي بينيت شخصيا.
وبالنظر إلى أن كلا من هذين الطرفين يتاجر بالقضية الفلسطينية تجارته الخاصة، لحماية استبداده الخاص، على حساب مصالح الشعب الفلسطيني وعلى حساب قضيته الوطنية، فإنه سوف يُؤثر المتاجرة على تطبيق أي اتفاق.
وبطبيعة الحال، فعندما يأخذ كل منهما حصته من المال، فإنه سوف يوقع على أي وثيقة. وأستطيع أن أزود الرئاسة الجزائرية بعشرين نموذجا تم توقيعه من قبل، إلا أن الطرفين سوف يعودان ليجدا سبيلا لنقض الاتفاق، بانتظار أحد آخر صارت له مصلحة في أن يتاجر بالمصالحة الفلسطينية، فيدعوهما إلى ندوة مماثلة.
هناك شيء واحد صحيح يمكن للجزائر، كما يمكن لكل الدول العربية أن تفعله، هو أن تلجأ إلى منظمات المجتمع المدني الفلسطيني لكي تدعم صمود هذا الشعب على أرضه. ولكي يختار هذا الشعب بنفسه شكل المقاومة التي يراها صالحة له، من دون توجيه من أحد.
المنظمات الأهلية الفلسطينية، وليس عصابات السلطة في رام الله وغزة، هي التي يتعين أن تحظى بالدعم المباشر والمساندة المادية والمعنوية.
أنظر إلى فلسطينيي القدس، واسأل نفسك كيف تجعلهم يصمدون على أرضهم ويحافظون على منازلهم، وكيف يوفرون لأنفسهم عيشا كريما، ولأطفالهم رعاية صحية وتعليما مناسبا، وكيف نشتري منهم ما يصنعون وما يزرعون. ثم أنظر، على النحو نفسه، إلى فلسطينيي الضفة الغربية وغزة، بل انظر أيضا إلى المجتمع الفلسطيني في أراضي 48.
هؤلاء هم المقاومة، وهم الصمود، وهم المواجهة اليومية ضد الاحتلال.
الشعب الفلسطيني، لا منظمات التسلط والفساد، هو القضية الفلسطينية. فهل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم؟
كفّوا عما تتاجرون به، إلى تجارة صادقة.