التوظيف السياسي لا يحل أزمة الأمن الغذائي

بليدي

لم يعد الخطاب السياسي في الجزائر يجد حرجا في استغلال أي شيء من أجل صناعة نصر للسلطة، حتى ولو كان متابعة دقيقة لمسار منتخب الكرة في مختلف المنافسات، أو توفير بعض الحاجيات الغذائية للشعب، رغم أن المسألة تدخل في صلب السلسلة الاقتصادية والتجارية الآلية، فبدل تقديم التفسيرات والتحاليل المنطقية للرأي العام، لتعليل حالات الندرة المسجلة دوريا في بعض الحاجيات الأساسية، تتم الهرولة في كل مرة لتعليق الأزمة على شماعة الخصوم أو المتآمرين.

تمنى الكثير من الجزائريين أن يكون التسريب الذي حدث في بداية الأمر، عن حظر بيع زيت المائدة للأطفال، أن يكون من قبيل الـ”فيك نيوز”، قياسا بضرر ذلك على صورة وسمعة الحكومة، فهي أولا وأخيرا مؤسسة رسمية في البلاد، غير أن تأكيد المسألة من طرف وزير التجارة كمال رزيق كرس التسيير العشوائي للأزمات الاقتصادية والاجتماعية، واللهث وراء العثور على “عدو يتربص بالسلطة”.

وحسب الضالعين في تقاليد النظام السياسي الجزائري، فإن السلطة سابقا كانت تعمد إلى افتعال أزمات داخلية هامشية، من أجل توجيه الرأي العام وتحويله عن القضايا الأساسية، ثم الظهور في ثوب “الأب الحنون الذي يحرص على خدمة أبنائه” للحصول على مكاسب شعبية.

وكان الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة ضليعا في توظيف مثل هذه الأساليب، فكثيرا ما أوعز لهذه الحكومة أو ذلك الوزير باتخاذ قرارات غير شعبية، وعندما تشتد حدة الانتقادات وردود الفعل الغاضبة، يقدم هؤلاء ككباش فداء، ويظهر هو في ثوب الرئيس المخلص، المتعاطف مع اهتمامات الشارع.

تأكيد وزير التجارة على أن حظر بيع الزيت للأطفال، لأن بارونات الاحتكار والمضاربة تستغل البراءة في الاستحواذ على المادة من المحال التجارية، أظهر نية الحكومة في تعليق الأزمة على أي شيء، إلا تقديم الاعتراف بالاختلالات الحقيقية المتصلة بسلسلة الإنتاج واستيراد المواد الأولية.

حكومة لا تتوفر على حقيبة للتخطيط والاستشراف، لا يمكن لها أن تضبط خرائط البلاد

ظاهرة الاحتكار والمضاربة ترتبط في الغالب بتحصيل أرباح وعائدات إضافية من طرف كبار التجار والموردين، لكن السلطة تريد إيجاد روابط أخرى للظاهرة، تتصل بمناورات سياسية من طرف دوائر معادية في الداخل والخارج، وتعتقد أن “أعداء الجزائر الجديدة لا يتوانون في نصب الفخاخ للسلطة، عبر أزمات مترابطة ومتراكمة”.

لكن في كل مرة تحاول استباق الأحداث بخطاب يوظف السياسة في كل شيء، يكون الخطاب الموازي أسرع منها، فهي لم تواكب بعد دور ومفعول شبكة الاتصالات الحديثة، بينما باتت صورة وتعليق على صفحة في هاتف ذكي كافية لكسر خطاب أكوام الصحف والمواقع والفضائيات الحكومية، وهو ما انقلب على وزير التجارة في كل مرّة يظهر بها محاولا تقديم المبررات.

قرار حظر بيع الزيت للأطفال تحول إلى فرصة للتعليق الساخر والتنكيت، كأن يقول أحدهم “تم إلقاء القبض على مجموعة أطفال وبحوزتهم صفائح من الزيت”، وتوضع خلفهم صور لقنينات الزيت، وكأنهم مهربون يعاقبهم القانون.

ومن السيولة المالية إلى ماء الشرب والزيت والحليب، ومرورا بحرائق الصيف الماضي، ظل خطاب المؤامرة والخصوم وأعداء التغيير والنظام البائد هو المبرر الوحيد لإخفاقات السلطة، ولم يتم الاعتراف بأن هناك خللا ما في المنظومة الاقتصادية والتجارية.

منذ الزمن القديم كانت مسألة الأمن الغذائي تدخل في صلب استراتيجيات الحكومات، وحتى العائلات الريفية البسيطة في الجزائر كانت تخطط لتوفير مخزون المواد الأساسية تحسبا للأوقات الصعبة، لكن الندرة المتكررة في الآونة الأخيرة أظهرت أن الأمن الذي تتفرغ له السلطة على الحدود غير كاف لوحده إذا لم يتم بالتوازي مع الأمن الغذائي والدوائي والاقتصادي والمالي..

وإذا كانت الحكومة تعتقد أن تقليص فاتورة الواردات هو الملاذ الوحيد لحماية التوازنات المالية للبلاد، فإن الذي يستوجب ألا يغيب عنها، أن التحديات لا تواجه بالجوعى والمرضى، وإن كان تغيب الكماليات مقبولا في قاموس التقشف، لكن أن يصل الأمر إلى المواد الغذائية الأساسية أو إلى دواء المرضى، فذلك مدعاة لقرع جرس الإنذار ومراجعة الحسابات الحقيقية، بدل الاختباء وراء الأعذار الواهية.

حكومة تجهل كم يستهلك شعبها من الحليب والزيت والدواء والماء، لا يمكن أن يعول عليها في الوصول إلى تحقيق أمن غذائي أو صحي

حكومة لا تتوفر على حقيبة للتخطيط والاستشراف، لا يمكن لها أن تضبط خرائط البلاد، فقد حدثني مختص في المجال الزراعي بأنه في بعض السنوات كان يحسب على الفرد الجزائري استهلاك 150 لترا من الحليب سنويا، بينما المعدل العالمي يقدر بنحو 90 لترا.

وقال وزير جزائري سابق إنه في بعض السنوات كانت بورصات العالم تهتز عندما تطرح الحكومة مناقصات التموين ببودرة الحليب، قياسا بالكميات المطلوبة، وكان المنتوج الفرنسي موجها كله للسوق الجزائرية، وعادة ما يلجأ الموردون الفرنسيون للمنتوج الأوروبي لتوفير كميات العروض الجزائرية.

والسر في ذلك حسب مختصين يعود إلى تحالف المافيا السياسية والمالية، التي كانت تستنزف وتهرب المال العام باسم الاستيراد، لكن هي جزء من السلطة وليست خصما لها كما يزعم حاليا، فهذا النوع من الخصوم يكون خطره أكثر كلما توغل داخل المنظومة، ويكون سهل الإطاحة والتفكيك كلما كان خارجها، ولو كانت الحكومة في مستوى التحديات لمسحت هذه المنظومة من المشهد، فهذا هو دورها وتلك هي مهمتها التي من أجلها يقبض أعضاء الحكومة رواتبهم من الخزينة العمومية.

الشهادتان تكرسان غياب التخطيط والاستشراف والخرائط الحقيقية، فحكومة تجهل كم يستهلك شعبها من الحليب والزيت والدواء والماء، لا يمكن أن يعول عليها في الوصول إلى تحقيق أمن غذائي أو صحي، وأن اللجوء إلى الإنفاق العشوائي لشراء السلم لا يخرج البلاد من المأزق. وها هي الآن بعد تراجع الموارد المالية الريعية، لا هي قادرة على الإنفاق ولا هي قادرة على ضبط الحسابات ولا التوفيق بين التقشف وبين الحاجيات الأساسية.

خلال السنوات الثلاث الأخيرة كان الحديث في العام الأول عن تصدير مادة البطاطا إلى بعض الأسواق العربية والأوروبية، وفي العام الثاني اضطر المنتجون إلى رميها في الطرقات للفت انتباه السلطات المختصة للتكفل بمسائل التخزين وتنظيم السوق، وفي العام الثالث (الحالي) تحولت إلى أزمة حقيقية وارتفع سعرها خلال الأشهر الماضية إلى مستويات قياسية، مما دفع الحكومة للتفكير في استيرادها لإسكات ضجيج الشارع.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: