الجزائر بين قمة النجاح وقمة الفشل

الصراف

الزعماء العرب الذين سيشاركون في قمة الجزائر المزمعة في مارس المقبل قد لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة. ولكن تملك الجزائر أن تسلك إليهم سبيلا آخر.

التصعيد تجاه المغرب لا يضع الجزائر في موقع يؤهلها “لإصلاح ذات البين” بين الدول العربية. تلك هي السياسة التي لطالما كانت من أسس “العمل العربي المشترك”. وما لم تُصلح الجزائر ذات بينها مع المغرب، فإنها لن تقدر على تقديم الكثير من النصائح في هذا الاتجاه. والدول العربية التي رعت انعقاد قممها، بما في ذلك الجزائر نفسها في الأعوام 1973 و1988 و2005، كانت تضع علاقات التعاون العربية على رأس جدول الأعمال. والسؤال الذي لا بد من مواجهته هو: هل يستطيع بلد يقطع علاقاته على كل المستويات مع بلد عربي مجاور بما فيها وقف إمدادات الغاز أن يتقدم بأي مبادرة “لتعزيز العمل العربي المشترك”؟

والجزائر التي تنتقد الجامعة العربية بزعم أنها ساهمت في إطالة الأزمة في ليبيا بعد موافقة الجامعة على تدخل مجلس الأمن الدولي لحل الأزمة في العام 2011، لم تقدم هي نفسها أي مساهمة جادة لحل هذه الأزمة. ومن الواضح أن دورها لم يكن إيجابيا عندما اختارت التنسيق مع تركيا، وأدارت ظهرها لمصر. المعنى الواضح من هذا المسلك هو أن الجزائر استهانت بنفسها كجار لليبيا، حيث كان يتعين أن تلعب هي الدور الذي تلعبه تركيا. كما أنها استهانت بجار عربي آخر، لم يكف عن القول إن الأزمة في ليبيا شأن يتعلق بأمنه القومي.

لقد كان يمكن لأي تنسيق مصري – جزائري فعال أن يضع حدا للكثير من تداعيات الأزمة في ليبيا، بل وأن يوجد لها حلا. ولكن الجزائر اختارت ألا تكون جارا، وألا ترعى حقوق الجار الثاني. حتى ذهب وزير خارجيتها إلى أنقرة، من دون حياء ولا خجل، ليبحث عن حلول هناك.

أحد أفضل المؤشرات على إمكانية نجاح القمة، هو رأب الصدع مع المغرب وتوجيه الدعوة إلى العاهل المغربي الملك محمد السادس للمشاركة في أعمالها، والتمسك بمجيئه إلى “بلده الثاني”

إصلاح الجامعة العربية هو أحد موضوعين رئيسيين تركز عليهما الجزائر في القمة المقبلة. ولكنها لم تقدم رؤية واقعية للإصلاح. ركزت على “تدوير” رئاسة الجامعة لإخراجها من دائرة “الهيمنة” المصرية، وكأن القصة هي قصة من يتولى منصب الأمين العام، وليس ما يتعين على الجامعة أن تنهض به من مشاريع وبرامج عمل عربي مشترك، في مجالات تنمية العلاقات الاقتصادية وتوسيع دوائر الاستثمار المشترك، ورفع مستويات التبادلات التجارية، فضلا عن القضايا الأخرى المتعلقة بالثقافة والتعليم، وغيرها من الموضوعات ذات الأهمية الحيوية في تنمية العلاقات السياسية والاجتماعية بين الدول العربية.

وزير الخارجية السابق عبدالقادر مساهل قال في العام 2018 إن الجزائر طالبت بـ”إصلاح عميق للمنظومة العربية التي لا تزال تعمل بطرق تجاوزها الزمن، ولا تستجيب لما يجري في العالم العربي من نزاعات، وهي غير قادرة على تقديم حلول”. وهذا صحيح إلى حد بعيد. ولكن الجزائر لم تكشف عن البدائل. وظل التركيز على قيادة الجامعة حجر عثرة يحول دون القبول بما بعده. وسبق للراحل الأخضر الإبراهيمي أن قاد لجنة خبراء في العام 2005 أعدت مشروعا لإصلاح عمل الجامعة، سُلّم بالفعل إلى الأمانة العامة، ولكن المشروع بقي سريا، وتم دفنه في النهاية.

وحيال تكرار فشل محاولات الإصلاح التي لم تبحث الجزائر في أسبابها، فقد اختار وزير الخارجية صبري بوقادوم الطريق الأسهل: توجيه الانتقادات النارية ضد “بعض العرب”، واتهامهم بالتواطؤ ضد بعضهم الآخر. وهو سبيل لا يمكنه أن يبشر حتى باجتماعات عمل مثمرة لمجلس الجامعة، بمشاركة وزراء خارجية “بعض العرب”، يقودها بوقادوم تمهيدا لأعمال القمة.

بوقادوم نفسه أقر سلفا بأنه “لا توجد نية سياسية لإصلاح جامعة الدول العربية”، فإذا كان ذلك كذلك، فلماذا طرح الموضوع أصلا؟

الجزائر تتخذ من الموضوع الرئيسي الثاني، القضية الفلسطينية، مجالا للمزايدات السياسية، وفرصة لإثارة غبار شعارات من حولها. عمليا فإن التوافقات العربية تستند إلى “مبادرة السلام العربية” التي تبنتها قمة بيروت في مارس 2002، والتي قدمها ولي العهد السعودي في حينها الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز.

هذا الأساس يمكن تكريسه والدفاع عنه بوصفه إطارا عربيا مشتركا لإحلال السلام في المنطقة. ولكن لا يمكن البدء من إثارة غبار الشعارات الفارغة من حوله. لأن ذلك سوف يقضي عليه ويبدده كأساس مشترك.

التنديد والإدانة المتوقعان لاختيار بعض الدول العربية تطبيع علاقاتها مع إسرائيل لن يخدم ذلك الأساس. ولن يفعل سوى أن يحيطه بالانقسامات والشروخ.

الصحيح، في حده الأدنى، هو تقليص “الضرر” لا زيادته. والصحيح هو تبني مقاربة تتفهم خيارات السيادة والمصالح الوطنية الخاصة من ناحية، وتعيد لم الشمل على تلك المبادرة، وتأكيد التمسك بها كأرضية مشتركة لتحقيق السلام الشامل.

من الخير أن تختلف المقاربات والمعايير المتعلقة بالمصالح الوطنية، ولكن من الخير أيضا أن يبقى المشترك مشتركا، وأن يُنظر إليه من زاوية المعايير القومية العليا.

الجزائر تتخذ من القضية الفلسطينية مجالا للمزايدات السياسية، وفرصة لإثارة غبار شعارات من حولها

الدعوة المحتملة للرئيس السوري بشار الأسد للمشاركة في القمة ما تزال موضوعا مثيرا للحساسيات. ولكن ليس لأن عزل سوريا لم يكن مفيدا ولا صحيحا من الأساس، بل لأن جروح الأزمة في سوريا ما تزال مفتوحة.

حتى العراق، على الرغم من كل النفوذ الميليشياوي الإيراني فيه، لم يجرؤ على دعوة الأسد للمشاركة في “قمة دول الجوار” الإقليمي التي عقدها في الثامن والعشرين من أغسطس الماضي.

على المستوى الوطني، قد يمكن استئناف العلاقات الدبلوماسية مع سوريا. ولكن على مستوى القمة العربية، فما يزال الوقت مبكرا على دعوة الأسد، لا لشيء إلا لأنه لم يتقدم بخطوة واحدة حقيقية لإيجاد حل سياسي للأزمة في بلاده.

هذا الحل يجب أن يكون هو مدخل الأسد إلى القمة. وهذا المدخل هو ما قد يوفر له المغسلة قريبة من الباب، لكي يغسل يديه من دماء نصف مليون سوري ذبحهم، و12 مليونا هجرهم، ودمر مدنهم، لكي يبقى في منصبه.

الجزائر، ربما أهم من هذا كله، لا تستطيع أن تتعامل مع قيادة أعمال القمة العربية من موقع “القوة” الإقليمية صاحبة الموقف الصائب الذي يتعين على الجميع أن يرضخ له.

هذه السلعة لم تعد لها قيمة. لقد بددها فشل الأدوار الإقليمية المماثلة التي حاولت أن تلعبها مصر في الستينات، والعراق وسوريا وليبيا في الثمانينات وما تلاها.

المقاربة الوحيدة الصحيحة هي أن هناك مصالح وخيارات وطنية يتعين أن تُحترم. وهناك مصالح عربية مشتركة يتعين أن تُبنى وأن تُحترم أيضا. وبين هذا وذاك، يتعين أن نتعلم قبول الاختلاف، من ناحية، وندور من حوله بالمصالح المشتركة من ناحية أخرى.

تنمية المصالح المشتركة هي جوهر عمل القمة. وهي جوهر عمل الجامعة العربية. لا التنابذ بالألقاب، ولا التغطية بشعارات فارغة، ولا الادعاء بامتلاك ناصية الصواب السياسي. كل ذلك سيكون نوعا من لطّ الحق بالباطل.

أحد أفضل المؤشرات على إمكانية نجاح القمة، هو رأب الصدع مع المغرب وتوجيه الدعوة إلى العاهل المغربي الملك محمد السادس للمشاركة في أعمالها، والتمسك بمجيئه إلى “بلده الثاني”.

سيكون ذلك بمثابة دعوة لكل القادة العرب بأن الجزائر بلدهم الثاني أيضا.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: