أنصاف صور توجه الرأي العام الجزائري

البليدي

صورتان عالقتان في ذهن المتابع للشأن الجزائري صنعتا رأيا عاما صاخبا، قبل أن يتضح أنهما مفبركتان، وسواء أنجزتا بذلك الشكل عن عمد أو عن غير عمد، إلا أن الصورتين استطاعتا أن تشحنا الشارع الجزائري بشكل كبير، ووضعتا الجميع أمام نظرية جديدة هي “الصورة الكاذبة” بعدما كان الأمر يتعلق تقليديا بالخبر الكاذب.

خلال التوتر الذي خيم على علاقات الجزائر مع قائد الجيش الليبي السابق الجنرال خليفة حفتر، لاسيما بعدما هدد باختراق التراب الجزائري، ظهرت صورة لدى مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي، عبارة عن تسجيل يظهر ربان طائرة هيليكوبتر قيل إنها تابعة للجيش الليبي على الحدود البرية المشتركة بين البلدين، الأمر الذي أثار اهتمام وغضب الجزائريين لاسيما المقيمين على المناطق الحدودية.

الصورة صنعت حالة شحن نفسي غير مسبوق، وارتفعت الأصوات تطالب المؤسسة العسكرية بـ”تأديب” الخطر القادم من الجنوب الشرقي، غير أن صاحب الصورة وبعدما تلاعب بمشاعر الملايين أراد إنهاء المسلسل بإنهاء الصورة إلى الآخر، حيث ظهر أنها عبارة عن لعبة مارسها مراهقون أشقياء، لكن تركيبها وإخراجها كان محترفا للغاية، فمجرد كرسي بلاستيكي وقطعة قماش وبعض الأصوات، تحولت إلى طائرة مروحية تستسفز الأمن القومي.

في السابق كانت تعرف بـ”النميمية” يقوم بها أفراد أو شباب، فتبدأ بخلاف وتنتهي إلى ما لا يحمد عقباه، والآن توجيه الرأي العام، بعدما دخلت وسائل الاتصال الحديثة على الخط، وظهور مدى تأثيرها في تصنيع وتوجيه الخبر والصورة، والأدهى من ذلك أن الأمر لم يعد يقتصر على مخابر الحكومات والجماعات، بل صار متاحا للجميع، فيكفي هاتف ذكي وشبكة إنترنت لتفعل الأفعال.

صورة أخرى أثارت تعاطف قطاع كبير من الجزائريين، ظهر فيها طفل أسمر وعلى رأسه جزمة بلاستيك كأنها تدهسه، وصدرت حينها الكثير من التأويلات والتعليقات، لاسيما وأن الصورة تزامنت مع الموجات الأولى لهجرة الأفارقة إلى الجزائر، لكن ظهر أن الصورة في حقيقة الأمر لطفل أسمر يلعب بجزمة من البلاستيك، وإنما المقاس والزاوية التي اختارها المصور هو الذي أظهرها في ذلك الشكل المثير.

تحولت الصورة إلى سلاح ذي حدين، فكما يمكن أن تعالج مشكلة أو تنقل صوتا، يمكن أيضا أن تثير فتنة أو تشعل حربا

استحضرت هذه الأمثلة بعد أسابيع من انتهاء فعاليات “كأس العرب فيفا قطر”، واللغط الذي أثير بين تونسيين وجزائريين ممن انطلت عليهم الحيلة وكانوا ضحايا لأنصاف الصور، فكانوا مستعدين لنسف كل شيء بينهما مقابل لعبة كرة قدم يكون فيها حتما خاسر ورابح.

المباراة كانت مشحونة بكل المقاييس، فهي بمثابة “دربي” مغاربي، تميزت كغيرها من مواجهات المنتخبين بالندية والشراسة، وفوق ذلك كانت نهائي منافسة عربية غير مسبوقة، ولذلك خيم عليها الشد العصبي والتدخل القوي، وهو المناخ الذي يحبذه هواة أنصاف الصور لإشعال الفتن بين المنتخبين والشعبين.

فكانت إحدى الصور تتداول على شبكات التواصل الاجتماعي تظهر ثلاثة لاعبين من المنتخب التونسي ساقطين على الأرض، بينما يظهر لاعب جزائري بينهم واقفا، وهو ما يوحي بأن معركة حدثت فوق الميدان، غير أن الصورة الحقيقية هي أنه في لحظة توقف اللعب، تداعى كل لاعب إلى ما لحقه من إصابة أو تعب جراء القوة التي تميز بها اللقاء.

آخرون أرادوا الاستثمار في لقطة “خنق” حدثت على المستطيل الأخضر للاعب جزائري تجاه لاعب آخر من تونس، وكاد هؤلاء يستحضرون داحس والغبراء، لكن الصورة حجبت عن الرأي العام، خاصة عندما ظهر اللاعبان يتصالحان بعد صافرة الحكم، وخلال الممر الشرفي، والصور التذكارية التي التقطها الشابان لنفسيهما في الفندق الذي كان المنتخبان يقيمان فيه.

صارت الصورة منذ ظهور وسائل الاتصالات الحديثة والإنترنت والهاتف الذكي وبرامج التركيب والمزج سلاحا فتاكا يمكن أن يستعمل في تصفية حسابات ثقيلة ليس بين الأفراد والعشائر فقط، بل بين دول وشعوب بأكملها.

والصورة كانت في قلب حسابات التاريخ الأزلية بين الجزائريين والفرنسيين حتى قبل ثورة التحرير، ورغم أن الأمر كان يتعلق بآلة تصوير بدائية آنذاك، إلا أن تسويق صورة بأغراض معينة كان في صميم الدعاية الفرنسية حينها، إذ ومن أجل تشويه صورة الأمير عبدالقادر في عيون شعبه وأمته والنيل من عزيمتهم، ظهرت صورة للرجل وهو منحن يقبّل يد قائد فرنسي، من أجل أن يظهر للرأي العام في ثوب الشخصية الضعيفة التي باعت القضية لأجل مزايا معينة، خاصة وأن هؤلاء يدركون مدى حساسية الجزائريين من مسألة الانحناء لتقبيل اليد.

وبعد عقود ظهر أن الصورة المذكورة، هي عبارة عن لوحة تشكيلية رسمها فنان فرنسي للغاية المذكورة، وتم تصويرها فوتوغرافيا بغية تحقيق الرسالة التي أرادها الفرنسيون من توجيه إهانة لشخصية الأمير وللشعب الجزائري والعربي.

سنويا تظهر في العالم صور تتوج في مختلف المحافل لأنها نقلت حقائق ورسائل عميقة وثقيلة للبشرية، لكن ليس كل الناس على هم واحد، فإذا اهتم البعض بصور الحروب والمجاعات والأمراض لإبلاغ صورة هؤلاء للعالم، فإن البعض الآخر بات يهتم بغير ذلك، فتحولت الصورة إلى سلاح ذي حدين، فكما يمكن أن تعالج مشكلة أو تنقل صوتا، يمكن أيضا أن تثير فتنة أو تشعل حربا.

منذ أسابيع وجدت صحافية محلية بشرق الجزائر نفسها أمام القضاء لأن الوالي (المحافظ) قدم ضدها شكوى بعد الصورة التي نشرتها في صحيفتها حول حفرة تعيق وصول سيارات الإسعاف إلى مستشفى المدينة، وكان الأجدر بالصحافية أن تنتهز صورة للسيارة داخل الحفرة بدل الحفرة لوحدها، لأن الصورة تزعج أيضا.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: