محاولة جزائرية لاستمالة تونس لتكتل إقليمي جديد

البليدي

كرست الزيارة التي قادت الرئيس عبدالمجيد تبون إلى تونس الاهتمام الجزائري المتنامي باستمالة الجار الشرقي، كحليف استراتيجي في المنطقة، وتجسيد العلاقات التاريخية بين البلدين وفق مقاربة جديدة يعتزم قائدا البلدين تدشينها، إيذانا بعهد جديد يجري التمهيد له، غير أن تزامن هذا التقارب مع التوترات التي تشهدها المنطقة، خاصة في ما يتصل بالعلاقات الجزائرية – المغربية، والوضع في ليبيا ومنطقة الساحل، يجعل الاهتمام الجزائري بعلاقاتها مع تونس محل استفهام حول الخلفيات والدلالات الحقيقية له.

ربطت أوساط عديدة التقارب اللافت بين الجزائر وتونس في الآونة الأخيرة، خاصة بعد الزيارة التي قادت الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون إليها، برغبة جزائرية في استمالة الجار الشرقي إلى تكتل، يعيد مراجعة الكيانات التقليدية في المنطقة، وأنها تريد الرمي بثقلها الاستراتيجي لترتيب معالم كيان جديد، بعيدا عن عضوية المغرب الذي بات مصدر قلق لها، خاصة بعد تطبيع علاقاته مع إسرائيل وظهور بوادر تحالف عسكري بين البلدين.

ووصلت العلاقات الجزائرية – المغربية إلى مرحلة متقدمة من التنافر غير المسبوق، حيث رفضت الأولى أي مسعى للوساطة أو رأب الصدع، ردا على بروز عدة نوايا خاصة من طرف دول خليجية أعربت عن رغبتها في احتواء الأزمة بين البلدين، وهو الأمر الذي يعطي الانطباع بأن الجزائر استنفدت كل طاقات الصبر على مناورات جارها الغربي، بحسب تصريح وزير خارجيتها رمطان لعمامرة، وهي بصدد الرمي بنفوذها لترتيب الخارطة السياسية في المنطقة.

ويبدو أن الجزائر التي وجدت نفسها محاصرة ببؤر توتر تحيط بها من كل الجوانب، لا تريد أن يضيع منها المنفذ التاريخي مع الجارة الشرقية، خاصة مع بروز بوادر التفاف إقليمي بعد تحول الخامس والعشرين من يوليو الماضي، حيث أبدت عدة قوى رغبتها في احتواء التحول المذكور في تونس، وهو ما تعتبره تمددا يزعجها وقد يصبح خطرا قائما بذاته على مشارف حدودها.

وأفضت التطورات الأخيرة في المنطقة إلى شبه عزلة وقعت فيها البلاد، فبعد التوتر الشديد مع المغرب وتحول الشريط الحدودي إلى شبه منطقة عسكرية، وانفلات الوضع الأمني في الشريط الجنوبي، وافتقادها لقوة المبادرة وتوجيه المخارج في الأزمة الليبية، لم يبق لها إلا المنفذ الشرقي الذي شعرت بإمكانية إفلاته من بين أيديها.

تبقى تونس الحليف الأنسب للجزائر جغرافيا واستراتيجيا في الملفات المشتركة إقليميا وعربيا، فهي علاوة على أنها تمثل عمقا استراتيجيا في المنطقة وحوض المتوسط، تجمعهما قواسم مشتركة كثيرة

ويظهر أن غسل الجزائر لأيديها من عبء الإخوان وحركة النهضة التونسية والأزمة السياسية الداخلية في البلاد، بعد تحول الخامس والعشرين من يوليو الماضي، هو مقدمة لمسعى ربح ثقة القيادة السياسية الجديدة، وأن تركيزها على دعم خارطة الرئيس قيس سعيد، هو إعراب عن براءة ذمة من علاقة حميمة جمعت حركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي بالنظام الجزائري السابق.

ويستند هؤلاء على أنه رغم غياب ملف الوضع في المنطقة المغاربية بشكل صريح في الندوة الصحافية التي جمعت الرئيسين تبون وسعيد، حيث تفادى الرجلان الخوض فيه بشكل علني، إلا أن كلامهما لم يخل من إشارات ضمنية اختصرها الأول في التدخل في الشأن الداخلي للدول، والثاني في الروح المغاربية لدى شعوب المنطقة، يوحي إلى أن الملف كان حاضرا بقوة في المحادثات.

وتبقى مفردة “المقاربة الجديدة”، التي جاءت على لسان سعيد، سواء في ما تعلق بالعلاقات الثنائية بين بلاده وبين الجزائر، أو في المنطقة عموما، كلمة سر تنبئ بتحول ما يخرج عن تقاليد النمط التقليدي في المنطقة، ولو أن البعض يعتبرها تأكيدا من تونس على رفض أي طرح بديل لتكتل المغرب العربي.

العلاقات الجزائرية – التونسية ظلت محافظة على خصوصيتها وعلى طابعها العادي حتى في أسوأ مراحل الفتور على مر العقود السابقة، لكنها اكتسبت زخما خاصا منذ مجيء القيادة السياسية الجديدة في الجزائر، حيث لم يتوان الرئيس تبون في الإعراب عن دعم بلاده لتونس بكل ما يتاح لها من إمكانيات مالية وصحية وأمنية.

وإذ بدا التوافق بين الرجلين جليا في مختلف الملفات المشتركة، خاصة في ما يتعلق براهن الشرق الأوسط وعودة سوريا إلى الجامعة العربية، فضلا عن الوضع في منطقة الساحل، وليبيا وضرورة المضي بالحلول السياسية في طرابلس إلى الأمام، فإن تلافيهما الخوض في الوضع بالمنطقة المغاربية، أعطى الانطباع بأن اختلافا في الرؤى لا يزال يحكم الطرفين.

ويبدو أن البلدين قطعا شوطا معتبرا في الانسجام، بشأن تعزيز المعسكر العربي المناهض للتطبيع بإعادة طرح القضية الفلسطينية وفق المبادرة العربية وإعادة سوريا إلى الحضن العربي وتحويل القمة المرتقبة في الجزائر شهر مارس القادم إلى فرصة لتذليل الخلافات العربية – العربية، وهو الأمر الذي كانت تبحث عنه الجزائر في تونس، بعد تمدد موجة التطبيع مع إسرائيل، وتحول فرصة إسقاط الأنظمة السياسية إلى إسقاط للدول، بحسب تعبير الرئيس تبون.

ويبدو أن الاهتمام الجزائري بالعلاقات الاستثنائية مع تونس، وبذل العطاء في ذروة أزمتها الاقتصادية والمالية، ليس وليد رغبة في عزل المغرب عن التجمع المغاربي والتخطيط لإرساء كيان جديد يتوسع لدول الساحل الصحراوي، لأن المسألة بدأت قبل نشوب التوتر بينها وبين الرباط، بل تعود جذوره إلى سنوات ماضية عرفت تناميا لنشاط الجماعات الجهادية في المثلث الحدودي لليبيا وتونس والجزائر، وفي الشريط الحدودي، مما استدعى تعاونا أمنيا واستخباراتيا وثيقا بينهما، وازداد تقدما بعد ظهور نوايا إقليمية في التغلغل إلى الجزء الشرقي من المنطقة المغاربية عبر بوابة الأزمة الاقتصادية والسياسية التي دخلتها تونس في السنوات الأخيرة.

وتبقى تونس الحليف الأنسب للجزائر جغرافيا واستراتيجيا في الملفات المشتركة إقليميا وعربيا، فهي علاوة على أنها تمثل عمقا استراتيجيا في المنطقة وحوض المتوسط، تجمعهما قواسم مشتركة كثيرة، ففضلا عن تشابه الوضع السياسي والاقتصادي للبلدين، تجمعهما وجهات نظر متقاربة في ما يتعلق بقضية التطبيع مع إسرائيل والوضع في ليبيا والساحل الصحراوي، والقمة العربية المرتقبة بعد أشهر قليلة، وعودة سوريا للجامعة العربية، وحتى إحياء المبادرة العربية كخارطة طريق في الصراع العربي – الإسرائيلي.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: