حكومة جزائرية “موازية” بلا قرار

البليدي

سعت الجزائر منذ تسعينات القرن الماضي لتذليل ظاهرة البيروقراطية باستحداث هيئة وساطة الجمهورية لتكون ملاذا للمتضررين من تعسف الإدارة والإداريين، غير أن المتشائمين لا يرون جدوى من ذلك، فمجرد التفكير أو العمل بوسيط، هو وجه من وجوه البيروقراطية نفسها، وأن الظاهرة هي جزء من المنظومة السياسية والأخلاقية واللوجستية التي تحكم البلاد، ولذلك لا يراهن هؤلاء على الجهاز المذكور، فهو على الأقل يستهلك المزيد من الوقت والجهد الذي بالإمكان ربحه عبر تحسين أداء المنظومة الحكامة بشكل عام. راهن الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، خلال إشرافه على لقاء للحكومة مع المكونات الاقتصادية، على جهاز وساطة الجمهورية المستحدث مجددا للقضاء على الحواجز الإدارية التي تعيق انخراط الفعاليات الاقتصادية والاستثمارية، ووجه توصياته لرئيس الهيئة بتكريس مصالحها لاستقبال المتضررين من البيروقراطية التي أعاقت تجسيد استثماراتهم وجهودهم الاقتصادية.

وعاد جهاز وساطة الجمهورية ومعه وسيط الجمهورية إلى الواجهة، منذ انتخاب تبون رئيسا للدولة نهاية العام 2019، وتمت دسترة الهيئة في النسخة الجديدة التي استفتي عليها الجزائريون العام الماضي، وعاد معها الجدل في البلاد حول الجدوى والمردودية من الجهاز في ظل هيمنة منظومة إدارية مهترئة استفادت كثيرا من المنظومة السياسية الجامدة منذ ميلاد دولة الاستقلال.

وتعود تجربة وساطة الجمهورية إلى الفترة التي قرر خلالها الرئيس السابق اليمين زروال استحداث الهيئة لأول مرة في تاريخ البلاد، وسلم مسؤوليتها للراحل عبدالسلام حباشي، وتحولت إلى ملاذ للجزائريين المتضررين من عبء البيروقراطية وتعسف الهيئات الحكومية، خاصة في قطاعات السكن والشغل.

الشكوك تحاصر الوسيط

تجربة وسيط الجمهورية أُعطيت العديد من التسميات حسب نظام كل دولة، ففي إنجلترا يسمى بالمفوض البرلماني، وفي إسبانيا أطلق عليه اسم مفوض الشعب، أما في الدول العربية فتعدّ السودان السباقة إلى إنشاء وسيط الجمهورية منذ العام 1918

غير أن الهيئة، ودون أن تخضع للتقييم والتدقيق، تم حلها بقرار من الرئيس السابق الراحل عبد العزيز بوتفليقة، بدعوى أن وجوها لا نفع منه، في إدانة غير مباشرة للدولة، وبدا حينها أن الوثبة التي كانت تريدها السلطة آنذاك كانت تراهن على مؤسساتها من أجل استعادة ثقة الشارع في إدارته وتذليل الحواجز المترسبة بينهما.

ويبدو أن الارتباك الذي عادت به وساطة الجمهورية إلى الواجهة، يؤدي مفعولا عكسيا عليها ويصب في صالح المعترضين، فهي إلى جانب أنها تظهر إلى حد الآن كتكريم للموالين للسلطة، تعاني من عدم استقرار في المنصب المركزي والمناصب المحلية، فبعد وضع السياسي والبرلماني السابق كريم يونس، على رأسها، تم الاستغناء عنه واستخلافه بشخصية مغمورة سياسيا لكنها نافذة إداريا، حيث كان آخر منصب شغله الرئيس الجديد إبراهيم مراد مستشارا للرئيس تبون، ونفس الشيء تقريبا في العديد من المناصب الولائية. وفي العالم تعتبر السويد رائدة في تأسيس هذا النظام الرقابي، وأطلقت عليه اسم “الأمبودسمان”، وفي رصيدها تجربة عمرها يناهز القرنين، وما تزال تسير بهذا النظام إلى الآن، وتعتبر بذلك أمّ هذا النظام في العالم، ومنها بدأت التجربة في الانتشار عبر العالم، وأعطيت له العديد من التسميات حسب نظام كل دولة، فمثلا في إنجلترا يسمّى بالمفوض البرلماني، وفي إسبانيا أطلق عليه اسم مفوض الشعب، أما في الدول العربية فتعدّ السودان السباقة إلى إنشاء وسيط الجمهورية، حيث يعود تاريخ تأسيس هذا النظام في السودان إلى العام 1918.

الرئيس زروال كان قد أشار إلى وسيط الجمهورية في برنامجه الانتخابي للرئاسيات التي جرت في السادس عشر من نوفمبر 1995، حيث ركز حينها على الاهتمام بمرفق العدالة واستقلاليتها، باعتبار وسيط الجمهورية هيئة طعن غير قضائية مستقلة مهمتها الأساسية تلقي الشكاوى المرفوعة لها من قبل المواطنين إلى الإدارة، ولم يعتمد المرسوم الرئاسي أيّ معيار في تعيين وسيط الجمهورية، فالمعيار الذي اعتمد في اختيار من يسيّر هذا النظام كان على أساس سياسي، أي الولاء للثورة الجزائرية، دون الالتزام بأي شرط قانوني أو تكويني.

وكان أول وسيط جمهورية تم تعيينه في الجزائر المناضل التاريخي الراحل عبدالسلام حباشي، انطلاقا من تعيينه حينها رئيسا للجنة الوطنية المكلفة بمراقبة الانتخابات الرئاسية في نوفمبر1995، التي كانت أول انتخابات رئاسية تعددية في البلاد، وفي أعقاب إلغاء الانتخابات التشريعية من طرف مؤسسة الجيش في مطلع التسعينات بعدما استحوذ عليها آنذاك الإسلاميون في جبهة الإنقاذ.

ثقة أم توزيع لحصص الكعكة

الرئيس تبون يراهن على جهاز وساطة الجمهورية المستحدث للقضاء على الحواجز الإدارية

مهام وسيط الجمهورية، كما فهم الجزائريون، فشلت، وقد تم الاستناد في ذلك إلى عدد العرائض غير المعالجة المقدرة بـ40 ألف عريضة، وأن 64 في المئة من الملفات لم يتم الرد عليها نتيجة التماطل والبيروقراطية، ويتعلق معظمها بقضايا القضاء والسكن والشغل، في حين لم يتم الرد سوى على حوالي ثمانية آلاف عريضة، وأغلقت حوالي أربعة آلاف ملف دون معالجة.

وإذ كانت التجربة الأولى محيدة إلى حد بعيد عن الالتباسات السياسية والحسابات السلطوية، كونها استعانت بشخصية حباشي الذي كان بعيدا عن السلطة، كما عمدت السلطة آنذاك إلى الانطلاق من اللجنة المستقلة للانتخابات لتكون وعاء للجهاز المستحدث، بما فيها المسؤولون الولائيون، فإن التجربة الحديثة أظهرت أن الهيئة هي مجرّد تكريم شرفي للموالين الجدد للرئيس تبون.

فالرئيس الأول كريم يونس، المعروف بماضيه السياسي في جبهة التحرير الوطني وشغله لمنصب رئيس البرلمان قبل أن يستقيل منه في 2004، بسبب خلافه مع بوتفليقة، لم يعمر طويلا في المنصب بسبب التجاذبات القائمة في هرم السلطة. وإن كان منصب وسيط الجمهورية في طبعته الجديدة قد أسند له، بعد خدمات جليلة قدمها إلى السلطة في ذروة الأزمة التي كانت تتخبط فيها بسبب ضغط الحراك الشعبي، فقد قاد لجنة الحوار الوطني نهاية العام 2019، ودافع عن خيار المخارج الدستورية والذهاب إلى انتخابات رئاسية، فإن ترحيله ترك العديد من علامات الاستفهام رغم أن المسألة غلفت بسلوك شخصي، بعدما صاهر فلسطينياً ينحدر من عرب 48.

عودة جهاز وساطة الجمهورية ومعه وسيط الجمهورية إلى الواجهة تعيد الجدل في البلاد حول الجدوى والمردودية من الجهاز في ظل هيمنة منظومة إدارية مهترئة

مناصب وساطة الجمهورية في النسخة الجديدة صارت بمثابة الريع الذي يوزّع على المحيطين بالسلطة المركزية، وفي كل مرة يتم الإعلان عن تعديل في هذه المحافظة أو تلك، وفوق ذلك فإن الوسيط الجديد إبراهيم مراد هو خريج الإدارة المولدة لظاهرة البيروقراطية، وكان آخر منصب شغله هو مستشار رئاسي مكلف بما يعرف بـ”مناطق الظل”.

ويذكر مقرّبون من مراكز القرار أن الرئيس تبون يهدف من إعادة الجهاز إلى خلق آلية رقابية مركزية ومحلية تحت مسمّى “وسطاء الجمهورية”، من أجل مساعدته على متابعة تسيير شؤون البلاد. ويذكر مرسوم تأسيس وساطة الجمهورية الصادر في الجريدة الرسمية للدولة أن الجهاز هو “هيئة طعن غير قضائية، تسهم في حماية حقوق المواطنين وحرّياتهم وقانونية سير المؤسسات والإدارات العمومية”.

أما صلاحياتها فتكمن في “المتابعة والرقابة العامة، التي تسمح لها بتقدير حسن علاقات الإدارة بالمواطنين، ويمكن لكل شخص طبيعي استنفد كل الطرق، ويرى أنه وقع ضحية غبن بسبب خلل في تسيير مرفق عمومي أن يخطرها”.

ويصفها مهتمون بالشأن المحلي، بـ”الحكومة الموازية” التي تضطلع بمهام أداء الأجهزة الرسمية مركزياً ومحلياً. ففي حالة وسطاء المحافظات ستكون مهامهم “مراقبة مدى أداء محافظي الولايات لمهامهم في إزالة عراقيل الإدارة”، على الرغم من أن الوسطاء وكذا المحافظين معينون جميعاً من قبل رئيس الجمهورية.

تحريات بلا صلاحيات

إدارة وساطة الجمهورية تبدو مرتبكة، فبعد تكليف كريم يونس استعيض عنه بشخصية مغمورة

ويبقى الطابع الاستشاري التوجيهي هو العائق الأول لأداء الهيئة كون توصياتها غير ملزمة للمؤسسات وللمسؤولين، فصلاحيات وسيط الجمهورية المركزي أو المحلي “لا تملك سلطة  القرار والفصل في الطعون بين المرافق العمومية وأعوانها، كما لا يمكنه أن يتدخل في أي إجراء قضائي، أو أن يعيد النظر في أي مقرر قضائي”.

وفي المقابل يخوّل لوسيط الجمهورية “صلاحيات التحريات التي تسمح له بالتعاون مع الإدارات والمؤسسات المعنية، وأن يقوم بالأعمال اللازمة لإنجاز مهامه، ويستطيع إخطار أيّ إدارة أو مؤسسة يمكنها أن تقدم له مساعدة مفيدة. كما يمكنه الاطّلاع على أيّ وثيقة أو ملف لهما صلة بأعماله، لكن صلاحياته لا تتعدى الميادين التي ترتبط بأمن الدولة والدفاع الوطني والسياسة الخارجية”.

السويد رائدة في تأسيس هذا النظام الرقابي وتعتبر أمّ هذا النظام في العالم، فقد أطلقت عليه اسم “الأمبودسمان”، وفي رصيدها تجربة عمرها يناهز القرنين

وبهذا فالعلاقة ما بين مؤسسة وسيط الجمهورية والجهاز التنفيذي الذي تتفرع عنه إدارات مركزية في المحافظات ليست واضحة، لأن عنصر التعيين يفقد منصب وسطاء الجمهورية القدرة على التعامل مع الخروقات المحلية، كما أن دورهم استشاري مثل بقية الهيئات المكلفة بالشؤون الدينية أو حقوق الإنسان أو جمعيات المجتمع المدني.

ويقترح وسيط الجمهورية في التقارير التي يرفعها إلى رئيس الجمهورية التدابير والقرارات التي ينبغي اتخاذها ضد الإدارة المعنية وموظفيها المقصرين، وهو ما يضعه أمام حتمية تواز وتعاون بين مهامه ومهام مرافقيه المحليين التعاون مع المجتمع المدني، وهو ما جرى التمهيد له بدعم السلطة الجديدة بقيادة الرئيس تبون للمجتمع المدني والجمعيات الخيرية تحديدا، كونها في لا تملك في برامجها الأهداف السياسية، ولذلك يمكنه الاعتماد عليها وعلى الأشخاص المستقلين في أداء مهامه.

ويرى مختصون بأن بعض النشطاء السياسيين كانوا يطالبون بإلغاء التعيين بالنسبة إلى محافظي الولايات بموجب الدستور الجديد، والآن هناك هيئة أخرى أعضاؤها جميعا معينون. الجزائر جربت نتائج الهيئات المرتبطة بالتعيين وهي لم تقدم أي جديد يذكر، ولذلك وجب أن يرى المواطنون ممارسة وسطاء الجمهورية أولاً، هل يشكلون حكومة موازية وبالتالي قوة اقتراح فعلية أم مجرد آلية بيروقراطية جديدة لا تمتلك صلاحية التدخل المباشر؟

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: