يتعجب البعض من سبب الهدوء الذي تمرّ به تونس هذه الأيام رغم أن البلد عرف إجراءات استثنائية من قبل رئيس الجمهورية أبعدت أطرافا سياسية عن دائرة القرار، وانقسم التونسيون في تسمية هذه الإجراءات بين من اعتبرها تصحيحية ومن وصفها بأنها إنقلاب على الشرعية. فهل هو الهدوء الحذر الذي يسبق العواصف عادة، خاصة وأن هناك من يشعر بأنه أزيح عن السلطة ظلما، ولا يعترف بالأخطاء التي نسبها إليه الطرف الآخر، ولا يرغب في تحمل المسؤولية على ما طال البلد من خراب طيلة العشرية الماضية؟
كما يفسرّ البعض سبب هذا الهدوء بأن هناك شيئا ما يتم الإعداد له في الخفاء للخروج من الأزمة خاصة مع حديث الاتحاد العام التونسي للشغل عن أنه بصدد الإعداد لمبادرة تم فيها تشريك خبراء من مختلف المجالات حتى تكون ناجعة ويمكن تطبيقها واقعيا. كما أن حديث رئيس الجمهورية نفسه عن قرب تحديده لآجال زمنية مضبوطة لإنهاء هذه المرحلة الإستثنائية يؤكد للبعض على أن الأمور سائرة نحو الإنفراج لإنهاء هذا الوضع الذي لا يجب أن يطول بأي حال من الأحوال بالنظر إلى كثرة التحديات التي تواجه البلاد في أكثر من مجال.
وتتفق أغلب الأطياف السياسية المحلية على ضرورة تعديل شكل النظام لضمان النجاعة في العمل السياسي، وكذلك تعديل القانون الانتخابي وقانوني الأحزاب والجمعيات لضمان شفافية العملية الانتخابية ولإيقاف نزيف التمويل الخارجي للأحزاب السياسية حفاظا على السيادة واستقلالية القرار الوطني. وبالتالي لا يمكن برأي هؤلاء الذهاب إلى انتخابات جديدة بدون هذه التعديلات الكبيرة وإلا تم إفراز الفشل ذاته الذي أدى بالبلاد إلى هذه الأزمة السياسية غير المسبوقة في تاريخ تونس الحديث.
ولعل السؤال الذي يطرح هل ستتضمن التوافقات التي قد تحصل لتجاوز الأزمة السياسية عودة البرلمان المجمد إلى سالف نشاطه، أي قبل إتخاذ الرئيس لإجراءات 25 يوليو؟ أم ان البرلمان بات من الماضي مثلما يؤكد البعض ولا يمكن إعادته؟ وما هي البدائل للخروج القانوني والشرعي من هذا المأزق دون المرور بالبرلمان الشرعي المنتخب من قبل الشعب بالاقتراع الحر والمباشر؟
في الحقيقة وحسب تأكيدات عديد المختصين في مجال القانون الدستوري لا يوجد مخرج لهذه الأزمة من خارج دائرة الحلول التي تقترح عودة البرلمان لعقد جلساته حتى يقع التمسك قدر الإمكان بالشرعية. ففي بداية سنة 2011 ورغم الإطاحة بنظام بن علي فقد تم التمسك بالدستور القديم وتطبيق فصله التاسع والخمسين وتم تعيين رئيس مجلس النواب فؤاد المبزع في ذلك الوقت رئيسا مؤقتا للبلاد إلى حين إجراء الانتخابات. وتكرر الأمر ذاته، أي التمسك بالشرعية الدستورية، بعد وفاة الرئيس الباجي قايد السبسي، فقد آلت رئاسة الجمهورية مؤقتا إلى رئيس البرلمان محمد الناصر رغم غياب المحكمة الدستورية العليا.
وحتى بالعودة إلى العهد الملكي أواسط خمسينات القرن العشرين، فإن الراحل الحبيب بورقيبة ورفاقه لم يطيحوا بالنظام الملكي ويعلنوا تونس جمهورية سنة 1957 إلا من خلال المجلس القومي التأسيسي المنتخب والذي أصدر أمر انتخابه الملك محمد الأمين. ولم يتعلق الأمر يومها بانقلاب عسكري قطع مع الشرعية، وإنما كان هناك مجلس سيد نفسه تمتع بصلاحيات مطلقة لتقرير مصير البلاد فأصدر أمره بخلع الملك عن عرشه لتعود تونس جمهورية كما كانت في العهد القرطاجي أي منذ ثلاثة آلاف عام.
ففي جميع الأزمات وحتى في زمن الثورات وأفول الأنظمة كان التونسيون يتمسكون بالشرعية الدستورية ولا يمكن القبول بأي حال من الأحوال أن يتم اليوم تجاوزها والقطع نهائيا مع المراحل السابقة. فالدولة التونسية واحدة وهي ممتدة ومتواصلة في الزمن ولا يمكن أن تنقطع في مرحلة ما ليعاد التأسيس لها من جديد، وهذا ما يجب أن يأخذه رئيس الجمهورية بعين الاعتبار في أي حل للخروج من هذه الأزمة حتى لا يتم مستقبلا التشكيك في شرعية الحكومات القادمة مثلما شكك البعض في شرعية حكومة نجلاء بودن.
أخطاء متكررة
ولعل اللافت أن الطبقة السياسية التونسية موالاة ومعارضة وكذلك الخارج الضاغط ما زالوا يكررون الأخطاء ذاتها التي تلت سقوط نظام زين العابدين بن علي، وهي الإصرار على الإصلاحات السياسية والبناء الديمقراطي دون الإلتفات كما يجب إلى الوضعين الاقتصادي والاجتماعي. فالكثير من التونسيين من أبناء الطبقات الوسطى والفقيرة، والذين انتفضوا على بن علي، والذين لم يهدأوا بعد رحيله وواصلوا الاحتجاج على من حل محل بن علي في حكم البلاد لأن مطالبهم الاجتماعية لم تتحقق، لا تعنيهم في شيء هذه الإصلاحات السياسية والعناوين الكبرى التي رأى فيها بعضهم مجرد ترف فكري لطبقة سياسية مرفهة ماديا وعاشقة لأحاديث الصالونات.
وبالتالي فإن أياما عصيبة ستكون بانتظار الفريق الحاكم الحالي على غرار تلك التي عرفها من سبقوه ما لم يتم إيلاء الملفين الاقتصادي والاجتماعي الأولوية على الملف السياسي الذي ينصب عليه اهتمام الجميع داخليا وخارجيا في الوقت الحاضر. وكأن الطبقة السياسية التونسية لم تأخذ العبرة من السنوات العشر الماضية التي تلت ثورتها وهي تواصل الوقوع في الخطأ ذاته وتواصل تكرار التعالي دون النزول من الأبراج العاجية لفهم المواطن البسيط الذي يئن اجتماعيا وفاق الوضع الاجتماعي المزري طاقة احتماله.
ويراهن البعض على الضغوط الخارجية على قيس سعيد وخاصة تلك الآتية من وراء المحيط، أي من الولايات المتحدة الأمريكية، حتى يرضخ ويعيد الأمور إلى سيرتها الأولى قبل اتخاذه للإجراءات الاستثنائية التي يعتبرها هذا الفريق انقلابا على الشرعية. ولعل الضغوط التي يتعرض لها من أطراف فاعلة في صنع القرار في واشنطن تجعل معارضيه يتصرفون براحة بال فيكتفون بتحريك بعض الاحتجاجات في الشارع من حين لآخر بالتوازي مع تحركات شخصيات فاعلة مقربة منهم لدى جهات أمريكية فاعلة.
ضوء أخضر
ويؤكد البعض عن أن ساكن قرطاج قد انتهى سياسيا يوم استدعى السفير الأمريكي للاحتجاج على إدراج الكونغرس للشأن التونسي ضمن جدول أعماله وهو الذي أصر في مناسبات كثيرة في خطبه على انتقاد التدخلات الخارجية الأمريكية والأوروبية في الشأن التونسي. فالولايات المتحدة هي داعم أساسي للاقتصاد الوطني من خلال مخصصات مباشرة تضخها في المنظومة المالية التونسية أو من خلال دفعها للصناديق المالية العالمية لإقراض الخضراء عند الحاجة.
بالمقابل يرى البعض أن رئيس الجمهورية قيس سعيد قد تحرك يوم 25 يوليو بضوء أخضر أمريكي وما كان ليفعل ما فعل لولا هذا التفويض الضمني من واشنطن التي شعرت أن مصالحها في تونس المجاورة لأسطولها السادس في مضيق صقلية قد تتضرر من حالة الاحتقان التي يشهدها الشارع التونسي وهي المتهمة بدعم منظومة 14 يناير 2011. وبالتالي لا يتصور عاقل أن تتراجع واشنطن عن دعمها لطرف ما في هذا الظرف القياسي، إذ لم يمض على إجراءات 25 يوليو سوى أربعة أشهر.