أحمد التوفيق وزير صوفي يرى المستقبل بصورة مختلفة

ماموني

كانت الفترة التي تولى فيها أحمد التوفيق حقيبة الشؤون الإسلامية في المغرب جد دقيقة، فهو أتى إلى المنصب بفضل ثقة ملكية كبيرة، بعد حكومة التناوب التي قادها حزب الاتحاد الاشتراكي إثر فصول طويلة ومريرة في المعارضة، وتحمل المسؤولية عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وما خلّفته من تغييرات على المستوى العالمي في تعامله مع المسألة الدينية، تزامناً مع أحداث مايو الإرهابية بالدار البيضاء سنة بعد توليه مسؤوليته، وهو ما اعتبر تحديا لموقعه ومقاربته للشأن الديني بالمملكة ممارسة وتنفيذا. وعلى هذه الخلفية تكمن أهمية تناول هذه الشخصية التي جمعت بين الأدب والتاريخ وسياسة الحقل الديني لمدة تقارب العشرين عاما. وها هو يتحمل مسؤوليته الجسيمة بعد أن بلغ الثامنة والسبعين من العمر، وهو في كامل روحه الوثابة تدبيرا وعطاء أدبيا، وبين الحقبتين الزمنيتين كان هناك نقاش حاد حول الإرهاب وإصلاح الشأن الديني والتصوف.

أدرك التوفيق، منذ توليه وزارة الشؤون الإسلامية، في العام 2002، تلك الصورة في المجتمع المغربي، وصورة السياق الجيوسياسي ذي الصلة بشكل خاص بهذه التوليفة.

مسؤولية الجميع

الوزير المغربي ومن منطلق التجربة يؤمن أن البعد الروحي في التدين هو المستقبل، لأن الأجيال القادمة ستبدأ بالبحث عن جوهر الدين الإسلامي من ناحية السلوك والأخلاق

ولم يكن التنقيب في الشأن الديني والأدبي في مسيرته بمحض الصدفة، فالتوفيق نال شهادة في علم الآثار والإجازة في التاريخ من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وشهادة في تاريخ المغرب، كما تحصّل سنة 1967 على شهادة السلك الثالث في التاريخ من نفس الكلية، أي أن التكوين الأكاديمي يسبق عنده الهواية أو الفرجة والفسحة فالصرامة تتوج مساره المهني والتدبيري على رأس وزارة الشؤون الإسلامية في المملكة المغربية.

خلص إلى أن الشأن الديني هو مسؤولية الجميع، ويهم جميع أبناء الأمة المغربية، فاليقظة التامة والنموذجية التي يحتاج إليها الناس في العلماء ترتبط أيضا بتدبير الشأن الديني للوزارة كآليات وعمليات، وهذا هو رأيه القائم على الفهم العميق للدين ممارسة وعقيدة، فالمسلمون في كل مكان في هذا العصر أكثر من ذي قبل في حاجة إلى علماء أوفياء لأهلهم ولبلدانهم، احتياجهم إلى السلم والطمأنينة والتخفيف من تبعات الحياة.

وظهرت درجة عالية من الجدية في مواقف الرجل ومقارباته في تدبير الحقل الديني في بلد تعتبر فيه إمارة المؤمنين من الثوابت الأساسية للنظام السياسي، لهذا تجده يعبّر عن سياسة الدولة في تدبير الشأن الديني في المغرب بمقتضى عقد البيعة باعتبارها نظاما سياسيا دينيا مستمدا من كون الإسلام منذ نشأ، نشأ دينا ودولة، وقد طورت المملكة العناصر المؤسسة لسياسة الشأن الديني وكيّفتها مع اختياراتها في السياسة والاقتصاد ولاسيما في جانب المؤسسات والحقوق دون تناقض مع المبادئ الأساسية للدين.

موضوع تدبير السياسة الدينية أضحى من المواضيع التي تفرض نفسها على الجميع، حسب التوفيق الذي يرى أن هذه القضية التي انحدرت في سلم الأولويات عادت من أسوأ طريق وهو طريق العنف والإرهاب في حين أن مسألة الدين يجب أن تعود من منطق آخر هو منطق المعنى لا الإكراه.

ولا يمكن الحديث عن الشأن الديني في المغرب دون التطرق إلى تاريخ التعايش والتسامح الديني في هذا البلد، وما يتصل بالأقليات الدينية وتنظيم إصدار الفتوى وأدوار المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية والعلاقة مع وزارة الأوقاف، والتعليم الديني العتيق وجهود المغرب في تكوين الأئمة بعدد من البلدان الأفريقية وتأطيرهم، وهو ما جعل التوفيق يركز على الاستجابة للحاجيات في مجال التأطير الديني، وتحصينه من الغلوّ والتطرف داخل البلد والبلدان الأفريقية.

 تقاسم التجربة مع الأفارقة

◄ مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة يرى فيها التوفيق، وهو أبرز شخوصها، أداة تعكس تجربة المغرب المتقدمة

علاقة التوفيق بالمجال الأفريقي داخل الوزارة قوية، على اعتبار الاهتمام المغربي بالبعد الروحي والديني لهذه المنطقة، فقد شغل منصب مدير معهد الدراسات الأفريقية ما بين 1989 و1995، وكانت له ارتباطات واسعة بالقادة الروحيين والسياسيين في دول المنطقة الأفريقية التي تشترك في التجربة الدينية تدبيرا وممارسة وسلوكا وعقيدة وتصوفا مع المغرب.

ولهذا يعتبر التوفيق الشاهد الرئيسي والمنفذ لإنشاء مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، باعتبارها أداة مساعدة لسياسة دينية مهيكلة للمغرب بتجربته في مجال الأمن ومكافحة التطرف وتعزيز السلم داخل هذه المنطقة المهمة.

بالنسبة إليه المغرب ظل يرعى تلك العلاقات، والتي دخلت في عهد العاهل المغربي الملك محمد السادس، في وتيرة نمو غير مسبوقة، وذلك من خلال المشاركة الأفريقية المتميزة في الدروس الحسنية، وانعقاد لقاءات جديدة للتيجانيين، وبناء مساجد في البلدان الأفريقية، الاستجابة المغربية لطلبات تكوين أئمة من بلدان أفريقية، والترحيب الأفريقي بإحداث مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة.

هذا الامتياز المغربي – الأفريقي يقع تحت أنظار الوزير منذ أعوام طويلة، كون العلاقات الدينية والروحية بين المغرب وعدد من البلدان الأفريقية الشقيقة تقوم على ثوابت دينية مشتركة، وهي الأشعرية عقيدة، والمالكية مذهبا، والتصوف سلوكا روحيا، وبهذا كله يعبّر التوفيق عن عقل الدولة المغربية الذي يؤمن بأهمية تقاسم تجربته في مجال التدبير الناجع للمجال الديني، وامتداد للروابط والعلاقات الدينية والروحية التاريخية بين المغرب وعدد من البلدان الأفريقية.

تدبير السياسة الدينية يعدّ من المواضيع التي تفرض نفسها على الجميع، حسب التوفيق الذي يرى أن هذه القضية التي انحدرت في سلم الأولويات، عادت من أسوأ طريق وهو طريق العنف والإرهاب

شجع التوفيق البعد الروحي كما ورثه المغاربة، وهو كمثال مال حيث مال والده نحو الزاوية التيجانية ليذهب بعد أن شبّ عن الطوق في اتجاه الزاوية البوتشيشية القادرية والتي استمر في الانتساب إليها منذ أن كان عمره 23 عاما، مقتنعاً بما كسبه روحيا وعقليا من خلال مصاحبة هذه الطريقة، ما جعله يؤمن بأن أهل الزوايا موضوعيا هم بعيدون عن تدبير الشأن السياسي لأن الزوايا تعمل ضد أنانية الإنسان وجشعه، ولأن أهل التصوف يجمعون بين مشيخة العلم والتصوف.

يعتقد الوزير المغربي ومن منطلق التجربة أن البعد الروحي في التدين هو المستقبل لأن الأجيال القادمة ستبدأ بالبحث عن جوهر الدين الإسلامي من ناحية السلوك والأخلاق، مستغربا أن تعلن طائفة عداء للصوفية وأبعادها الروحية في الوقت الذي تتسابق فيه الديانات اليوم لإعطاء الإنسانية قيما روحية، خاصة وأن الإسلام انطلق من القيم الروحية والأخلاقية، وأن علم التصوف يهتم بالأخلاق قبل أي شيء، ويحث المرء على أن يحاسب نفسه بنفسه.

التصوف عند التوفيق مسلك روحي قائم على نفس أساس العدل، عدل الإنسان مع نفسه ولا يكون الإنسان عادلا مع نفسه ومع غيره ومع الله تعالى إلا إذا زكى نفسه، وأعداء التصوف يحاربون جوهر الدين الإسلامي ويسعون لترك الإسلام قشورا بلا جوهر.

وإذا كان التصوف يتميز في الإسلام بأمرين؛ هما التقيد بواجبات الدين وأحكام الشريعة وبمحبة مقام الرسول الكريم، فهؤلاء الجهال كما يصفهم، التوفيق، يريدون تجريد الدين من أبعاده الروحية وقيمه الإنسانية، مذكراً بأن أكثر من ثلثي الفقهاء وعلمائنا كلهم كانوا أصحاب طريقة سلوك، وهم يعرفون جيدا ما جاء في القرآن والسنة وهم أحرص على أمتهم من غيرهم.

يقسّم التوفيق هؤلاء إلى معارضة لاتاريخية، من جهة أنها استهدفت أقوال أشخاص من النخبة ومعتقدات من طوائف اجتماعية دنيا، ومعارضة لافلسفية من جهة ثانية لأنها تتحرج من التأويل، في حين أن علوم القوم علوم رمز وتأويل وإشعاع، وهي معارضة لااجتماعية لأنها لا تعترف بحق الملأ العالم الذي نسميه عادة بالجماهير في الفيض الشعوري الذي تستنكره تلك المعارضة، وهي معارضة لاإنسانية لأنها لا تؤمن بحق طلب اكتمال الإنسان عن طريق الروح مكرمة في بني آدم نساء ورجالا، وهي معارضة لاسياسية ومعارضة لاربانية.

مغامرة الحياة

◄ التوفيق يرى أن المسلمين في كل مكان في هذا العصر في حاجة أكثر من ذي قبل إلى علماء أوفياء لأهلهم ولبلدانهم

بنَفَس صوفي وعمق إيماني ينظر التوفيق إلى الحياة والقدر كمصير نطوعه فقط بالإيمان وعندما نقبل مغامرة الاعتقاد، عندها نضفي معنى على حياتنا بتحمل مسؤولية في هذا المصير. هنا تكمن شخصية الوزير الأديب ابن الأطلس الكبير حيث عاش إلى غاية الثانية عشرة، قبل أن يرحل إلى مراكش ويعيش ظروف عهد الحماية الفرنسية وقسوته، وفي سنه هذه لازال يقدم نفسه مؤرخا وجامعيا إلى جانب مسؤوليته الكبرى على رأس وزارة سيادية، دون أن تفقده إكراهات المنصب فسحة الخيال عنده كروائي.

الدين والأدب حاضران في شخصية التوفيق كدراسة للعلاقات المتبادلة بين التقاليد الدينية والتقاليد الأدبية التي تشبّع بها ومارسها كتابة ودرسها أكاديميا، فأنتجت أديبا روائيا يولي اهتماما خاصا بالأسس الدينية وتأثيراتها وانعكاساتها على الفرد والجماعة. وكلا الحقلين أخذا الرجل إلى عوالمهما المتداخلة عند الكتابة وقبلها وبعدها، خصوصا وأنه كان يستحضر الروايات التي قرأها واستمتع بها منذ الطفولة في بلدته ومدينة مراكش وفي الرباط شابا ناضجا.

ارتباطه الشديد بالتصوف والتاريخ قاده إلى رواية “الكيميائي”، لباولو كويلو، وهو المتن الذي جذبه إلى عوالم الرواية ومتاهاتها، المشترك بين الكاتبين هو البحث عن الحكمة والحقيقة. والتراث هو المصدر. فكان أن تشجع التوفيق لينتج “جارات أبي موسى”، رواية نهلت كثيرا من التاريخ والجغرافيا فهما ولغة. وسبق له في الطفولة أن تعرف إلى دوستويفسكي، تولستوي، وبوريس باسترناك، صاحب رواية “الدكتور جيفاكو”، إضافة إلى نصوص بلزاك وهنري تروا، وغيرهم كثير.

رغم الانتقادات التي واجهتها روايته الأولى والتي اعتبرها غير بريئة، جمع شجاعته لتأكيد مكانته في عالم الرواية بـ”شجيرات حناء وقمر”، واسترسل في الكتابة الروائية عبر “غريبة الحسين”، و”السيل” وتوجها  بسيرة ذاتية “والد وما ولد”. وكان لوالدته تأثير واضح على شخصيته انعكس على طريقة تعاطيه مع العنصر النسوي في الحياة والأدب فهي تذكره بالجمال والمعاناة. وإذا كانت الكتابة الروائية تنير العالم الحقيقي الذي نعيش فيه، فهو كمؤرخ لديه حساسية مفرطة من المفارقات التاريخية، بذل جهداً كبيراً حتى لا يسقط في تلك المفارقات من خلال بناء الجو المحيط بالشخصيات واللغة المستعملة، فالرواية تقارب أدبيا وفنيا وتاريخيا أيضا حياة هذا الولي والعالم ومذهبه اللذين يدوران حول مسألة العطاء، حيث تدرج في مذهبه حتى بلغ مرحلة كان يعطي فيها كل ما يقع بيده ولا يحتفظ لنفسه وأهله إلا بالعشر، فكانت له كما قال كرامة أن يدعو فيُستجاب له.

الفقيه والمؤرخ والمتصوف تمتزج كلها في التوفيق بالروائي الكاتب المهتم بالأدب والثقافة، لهذا تجده مرهف الإحساس في كتابته غزير الكلمة البليغة والعالمة.

ما يريده التوفيق من خلال الفترة التاريخية التي يمر بها المغرب حاليا وفي الماضي والتي راقبها وجايلها وانخرط فيها، التأكيد على  وجهة نظره في التصوف من البعد التاريخي والاجتماعي والثقافي، والأسلوب الأنجع في مدارس البلاد الإسلامية وجامعاتها اليوم وغدا، وهو الطرح الذي يتيح نقل الكلام عن التصوف من مجال المطارحة الكلامية الفردية إلى مجال الواقع.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: