كيف سينتهي اللعب الروسي على حبلي الجزائر والمغرب؟

بولحية

حتى إن رآه البعض تهديدا أجوف، فمن المعني يا ترى بالطلب الذي وجهه الجمعة الماضي مسؤول في البوليساريو، من خلال وكالة الأنباء الجزائرية «للمجتمع الدولي والمؤسسات التجارية» حتى تبتعد عن «الاستثمار» في ما وصفه بـ»الجزء المحتل» من الصحراء، على اعتباره «منطقة حرب وغير آمن» مثلما قال؟ هل الأوروبيون، الذين دعاهم العاهل المغربي في خطابه الأخير، ليخرجوا من المنطقة الرمادية، ويوضحوا موقفهم من دون لبس، من مغربية الصحراء، سيكونون وحدهم المعنيين به؟ أم أنهم حتى من اعتبروا مقربين مثل، حليف العراب الجزائري للجبهة فإنهم مشمولون بدورهم بذلك؟
من المفارقة أن يطرح السؤال في ارتباط بروسيا بالذات، في وقت يسود فيه الاعتقاد بأنها ستكون بعيدة جدا عنه، حتى إن اختلف تقييمها لقدرة الجبهة على السيطرة على الأرض، أو تصورها لطبيعة الدور الذي قد تضطلع به في أي ترتيبات في المرحلة المقبلة، لكن ما ليس معروفا بعد، هو ما إذا كان الروس لا يزالون يعتبرون الميليشيا، التي تبنت الفكر الماركسي في مرحلة ما، هي الآن لاعب فرعي مهم يتحرك داخل رقعة جغرافية ممتدة، تتصادم فيها مصالحهم بمصالح الدول الكبرى، ومن المفيد لهم أن لا يستغنوا عنه في سعيهم لتحقيق مشاريعهم وطموحاتهم هناك؟ أم أنهم باتوا يعتبرونها مجرد ورقة محروقة قد تغري حليفهم الجزائري للمقايضة بها على دور إقليمي، لكنها لا تكتسي بالنسبة لهم القيمة التي كانتها في السابق؟ وهنا فإن تعاطف الكرملين معها ليس مقياسا، بل لعله يكون أحيانا مضللا.
الثابت أن موسكو ورغم تحفظها غالبا على القرارات التي يصدرها مجلس الأمن حول القضية الصحراوية، لم تعترف رسميا مثل معظم العواصم بالجبهة، كما أنها لم تسقط تماما من حساباتها، أنها باتت العقبة الكبرى أمام تطبيع علاقة الجارتين المغاربيتين، اي المغرب والجزائر. وبهذا المعنى وحده، فلا يبدو أن من مصلحتها تحييدها تماما من المعادلة، لكن بمجرد أن تغادر القطع البحرية الروسية السبت المقبل، ميناء العاصمة الجزائرية في ختام مناورات ثنائية بين قوات البلدين «في إطار تجسيد التعاون العسكري الثنائي الجزائري الروسي» لهذا العام، حسب ما أعلنته وزارة الدفاع الجزائرية، فإن السؤال الذي سيتكرر مجددا هو وماذا بعد؟ ما الذي يخطط الروس لفعله في الشهور المقبلة في ذلك الجزء من العالم، خصوصا مع التوتر الذي تشهده علاقتهم بحلف الناتو؟ لا شك في أن الجزائر كانت وما زالت موطأ قدمهم التقليدي في الشمال الافريقي، غير أنهم باتوا وفي السنوات الأخيرة ولعدة أسباب، يمدون أرجلهم بشكل مفاجئ في أكثر من مكان آخر في المنطقة المغاربية. ومع ذلك فلا شيء يدل على أن ذلك بات يثير قلقا واسعا، أو انشغالا عميقا في واشنطن، أو يدفع الدول الأوروبية للتفكير بجدية في القيام بتحرك جماعي، أو فعال لوقفه، أو للحد من آثاره، لكن هل يعني ذلك أنهم قد انتزعوا، أو هم بصدد انتزاع دور أكبر في حل الملفات والأزمات القائمة هناك؟ كل المؤشرات تدل على ذلك، لكن يبدو من المثير حقا أن لا يثير التحفظ الروسي على القرار الأخير لمجلس الأمن، بتمديد عمل بعثة المينورسو في الصحراء، استغراب أو استنكار الرباط، عكس ما حصل مع التحفظ التونسي مثلا. فالمغاربة الذين كانوا يدركون جيدا أن موقف موسكو من المسألة الصحراوية، ظل قبل وبعد انتهاء الحرب الباردة منحازا، وبشكل كبير لعلاقاتها الوثيقة بالجزائر، ومرتبطا مع ذلك وبدرجة أولى بتصورها للطريقة التي تراها مناسبة للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، تجنبوا التعليق على قرارها، ولم يفعلوا ذلك من فراغ. ومع أنه لا شيء يدل على أن الرغبة القديمة لروسيا للحصول على منفذ بحري مطل على المحيط الأطلسي قد تبخرت، رغم التحولات التي حصلت في العالم، فإن العنصر الإضافي، الذي دخل على خط ذلك الحلم، هو أن الروس لم يعودوا دوغمائيين مثل السابق، بل صاروا، على العكس براغماتيين جدا في سعيهم لتحقيق هدفهم. ومع أنهم لم يتخلصوا تماما من بعض الأدوات والأساليب السوفييتية القديمة، من قبيل ادعائهم أنهم يدعمون الشعوب الرازحة تحت الاستعمار، ويقفون مع حقها في تقرير مصيرها، إلا أن ذلك لم يعد يمنعهم من فتح هامش واسع للمناورة على الجانب الآخر، فرغم أن مندوبهم في مجلس الأمن برر تحفظ بلاده على القرار الأخير لمجلس الأمن حول تمديد عمل بعثة المينورسو بأنه تم بالنظر «لعدم مراعاة ملاحظاتها المبررة واقتراحاتها ذات الطابع التوافقي خلال المشاورات» إلا أن ذلك لم يمنعه بالمقابل من أن يتعهد في تصريحات عقب التصويت، بأن تظل روسيا «لاعبا غير منحاز» في التسوية، وأن تبقى على تواصل مع الأطراف الإقليمية كافة، على حد تعبيره. وهو ما يعني بوضوح أن الدعم الروسي لما تسميه البوليساريو حق الصحراويين في تقرير مصيرهم، هو من قبيل الإنشاء الذي لا يمنع الروس من البحث عن مصالحهم في الجهة المقابلة على عكس ما تفعله حليفتهم في الشمال الافريقي أي الجزائر، التي تعجز حتى الآن عن مجاراتهم في ذلك، بعد أن جربت ولفترة محدودة، خلال عهد الرئيس الراحل بن جديد أن تفصل بين موقفها من البوليساريو ومصالحها مع المغرب. ومن الواضح أن الرباط نجحت، وإلى حد كبير، في دفع موسكو لأن تتبنى مواقف أقل حدية في النزاع الصحراوي، وأن لا تنظر للمشكل من زاوية واحدة فحسب. وهكذا صار المشهد مزدوجا. ففيما يؤيد الروس نظريا أطروحات الجزائر من جانب، يكرسون على الأرض وعمليا من الآخر مطالب المغرب. ولعل اتفاق الصيد البحري، الذي وقعوه قبل سنوات مع الرباط، وقاموا بتجديده معها في إبريل الماضي، هو الصورة الأكثر وضوحا لذلك.

الرباط نجحت، وإلى حد كبير، في دفع موسكو لأن تتبنى مواقف أقل حدية في النزاع الصحراوي، وأن لا تنظر للمشكل من زاوية واحدة

لكن البراغماتية الروسية تصطدم ببعض التحديات، وفي مقدمتها المدى الذي قد يصله اي تقارب روسي مع المغرب على حساب الجزائر والبوليساريو. وهنا يبدو الرد الرسمي للخارجية الروسية على تقرير نشرته صحيفة «الشروق» الجزائرية في الثامن عشر من الشهر الماضي، حول توتر في العلاقات الروسية المغربية، جديرا بالاهتمام. فبعد أن وصف تلك الأنباء بأنها «لا تتوافق مع الواقع ولا توجد الا في خيال هذه الصحيفة» مضى للقول إنه «ليس سرا أن الكثيرين بمن فيهم لاعبون من خارج المنطقة منزعجون جدا من تعزيز موسكو علاقاتها مع الجزائر ومالي والمغرب وغيرها من دول المنطقة، ويستغلون كل الوسائل المتوفرة بما فيها التضليل، بغية دق إسفين في علاقاتنا الثنائية والإضرار بها». لكن كيف يمكن للروس أن يجمعوا بين الضدين معا؟ ومن يصدق أنه سيكون بمقدور من برعوا في لعبة الروليت، أن يفلحوا في لعبة لا غالب فيها ولا مغلوب؟ من المؤكد أن الاختبار الحقيقي لهم سيكون في حال ما إذا نفذ البوليساريو بالفعل تهديداته في الصحراء، لكن ما ليس واضحا في تلك الحالة هو ما إذا كانوا سينجحون فيه أم لا.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: