حينما أرادوا النصب على عادل إمام، استدرجوه للهجرة أين أغروه بالمال والرفاهية، فقالوا له “هناك الساعة بخمسة جنيهات والحسابة بتحسب”، لكن المعاناة والصدمة كانت قوية عندما اكتشفت الضحية أن الأمر لم يكن سوى عملية نصب واحتيال لا غير. ولا يبدو الأمر بعيدا عما يتعرض له الجزائريون، بعدما اكتشفوا أن هناك من ضحك عليهم بالشعارات والخطابات والوعود، وأنهم صاروا يشترون مادة البطاطا بدولار أميركي للكيلوغرام الواحد.
لا حديث في الجزائر إلا عن سيدة موائدهم البطاطا التي صارت في أعلى عليين، وسط دهشة غير مسبوقة حول موجة الغلاء التي تهدد غذاء الجزائريين، ولم تعد لا الشعارات ولا الخطابات ولا الوعود كافية لإقناع أكثرهم سذاجة.
وغفلت الحكومة عن أن تعليق الشماعة على المضاربة والمضاربين، هو أول ما يدينها ويحكم بفشلها ورحيلها لو كان في البلاد من يحاسب ومن يسأل، لأن عجز أجهزة ومؤسسات حكومية برمتها عن وضع حدّ لظاهرة المضاربة التي تبرر بها فوضى الأسعار السائدة، يوحي بأن المضاربين واللوبيات هم سادة الموقف وأقوى مؤسسة في البلاد وليس الحكومة المدججة بكل الإمكانيات.
ولمّا لم يبق أمام السلطة إلا استلال سيف العقوبات القضائية الرادعة لكسر شوكة المضاربين، يصبح المضارب في مستوى واحد مع الجناة الكبار، ما دامت الثلاثون سنة حبسا نافذا أو الإعدام المجمد هي العقوبة التي تنتظر الجميع. هل المضارب سوى مختطف ومغتصب وقاتل للأطفال في منطق وفقه القانون؟
لا زالت السلطة تتجاهل الشفافية والصراحة في إدارة الشأن العام، حتى صار سعر البطاطا في مصاف الأصناف الغذائية الكبرى، مثلها مثل باقي المواد الغذائية والاستهلاكية، فالغلاء لم يسلم منه أي شيء، سواء كان غذاء أو دواء أو قطع غيار أو حتى مواد تجميل. فإلى أي مدى بلغ نفوذ المضاربين إذا سلمنا بمقاربة الحكومة.
في حكومة أيمن بن عبدالرحمن، وزير يصلح لأي شيء إلا قطاع التجارة، فهو كلّما دخل على خط إلا وأثار أزمة، إلى درجة أنه صار نذير شؤم بالنسبة إلى الطبقات الاجتماعية الهشة، فكل تصريح أو قرار أو حركة أو خطاب شعبوي يصدر عنه سرعان ما ينقلب عليه وعلى الشعب، فيكون بذلك مثل عادل إمام ضحية من ضحكوا عليه وأوهموه بأن “الساعة بخمسة جنيهات”!
وكان أيمن قد وعد الجزائريين منذ عامين، بأنه سيقضي على أزمة الحليب في ظرف أسبوع، وخفض أسعار اللحم إلى سبعة دولارات، وظل لأيام وأسابيع يؤدي أدوارا بهلوانية في الأسواق والمتاجر الكبرى، وأخيرا، وبعد أن كانت أسعار البطاطا أقل من دولار واحد، وبمجرد أن تكلم واتهم المضاربين ارتفع سعرها إلى أكثر من دولار، فصار صمته مهما له وللجزائريين.
في الجزائر المضاربون هزموا الحكومة. والمفروض أن حكومة لا تستطيع حماية نفسها والبلاد جدير بها أن ترحل. في كل أزمة يثبت أعضاء في الحكومة أنهم أشبه بمسير بقاليات صغيرة وليسوا وزراء. فالوزير كمال رزيق عندما سئل عن وعوده بخفض أسعار اللحوم الحمراء، رمى بالكرة في ملعب جمعية الموالين ومربي المواشي، التي قال إنها لم تلتزم بتعهداتها معه. وهو عذر أقبح من ذنب، فالوزير الذي لا يستطيع أن يضمن تعهد جمعية كيف له أن يتعهد لشعب كامل (45 مليون نسمة).
ومن التجارة إلى الزراعة، إلى الصناعة، إلى المياه وإلى كل القطاعات، “الساعة بخمسة جنيهات والحسابة بتحسب”، شعارات فارغة وخطابات جوفاء ووعود زائفة. حتى شهور قريبة فاتت كانت السلطات المسؤولة تجند أدواتها الدعائية لإظهار أن الجزائر تصدر البطاطا إلى دول عربية وأوروبية.. فماذا حدث لينقلب الوضع وتضطر الحكومة إلى استيراد تلك المادة لتكسر ما أسمته بـ”شوكة المضاربة”.
حينها تحدثت الأرقام عن تصدير 20 ألف طن من بطاطا وادي سوف، لوحدها فقط، والآن لم يجد مجلس الوزراء بدا من الإذعان للأمر الواقع والإقرار باللجوء إلى الاستيراد، ليتأكد الجزائريون مرة أخرى من أحد فصول “الساعة بخمسة جنيهات”، لأنهم سيدفعون مقابل مادة البطاطا أربعة أو خمسة أضعاف ما يدفعه مواطنو الدول التي قيل لهم إن بلدهم يصدر البطاطا إليها.
الجزائريون غفروا للرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة كل شيء، لكن مشروع العهدة الرئاسية الخامسة هي التي أسقطته، وكان بإمكانه أن يجنب نفسه ويجنب البلاد السيناريو الذي تعيشه، لكن شغف الكرسي أعمى بصيرته قبل بصره. والسلطة الجديدة يمكن للجزائريين أن يغفروا لها كل شيء، إلا التمادي في كذبة “الساعة بخمسة جنيهات”، لأن حبل الكذب والخداع والحيلة قصير مهما طال عمره.
لا شيء يمكن أن يقنع الجزائريين إلا الصراحة والحقيقة، وأن النصب عليه كما نصب على عادل إمام، بوهم “الساعة بخمسة جنيهات”، لا يمكن أن يجدي نفعا، ولا بد من الذهاب إلى جرد الحساب، والسلطة التي لا تملك وزارة للتخطيط والاستشراف، لا يمكن لها أن تضبط توقعاتها وحساباتها، وإلا كيف ينتقل البلد خلال عامين من مصدر للبطاطا إلى مستورد لها؟
لا يدري الجزائريون ما سبب وجدوى استغفال حكومتهم لهم، والإصرار على نظرية المؤامرة في تبرير إخفاقاتها، لأن الأمر لا يتعلق بمادة غذائية وحدها، بل بمختلف المواد الاستهلاكية سواء كانت غذاء أو دواء أو أثاث بيوت، أو قطع غيار، أو مواد تجميل.. النيران اشتعلت في الأسواق من اليمين إلى الشمال، والخطر يداهم قوتهم، وأصبحت الأحاديث تدور حول أسعار البطاطا والزيت والبقوليات والعجائن وغيرها.
لا أحد يعلم كم طبعت الحكومة من أموال، ولا أحد يملك نبأ خفض العملة المحلية، ولا أحد يملك الأرقام الحقيقية، ولا أحد قدم للشعب استشرافا لخمس سنوات فقط. أزمة المياه بدأت العام الماضي، ولما دقت أجراس الإنذار، قيل إن “عصابة” تقف وراء الاضطرابات، ولو اتخذت الإجراءات التقشفية حينها، لما كانت حدتها بنفس الحدة التي تطبق الآن، فبعض الأحياء لا يصلها الماء بالأسابيع.
جفت الأرض، وتوقف هطل السماء، فلا شرب ولا سقي، وفوق ذلك تقلصت فاتورة الاستيراد لكن على حساب ماذا؟ على حساب دواء المرضى وبذور الزراعة. تحالف الجفاف وندرة البذور وعزوف الفلاحين عن المغامرة باستثماراتهم، وضخ الأموال دون مقابل، فاستفاق الجزائريون من وهم “الساعة بخمسة جنيهات”، إلى واقع سعر كيلوغرام البطاطا الواحد فيه بدولار أميركي!