التطورات المتسارعة التي يشهدها ملف الصحراء مؤشر على تحول النزاع إلى عنوان لحرب باردة إقليمية يشهدها غرب البحر الأبيض المتوسط.
رفضت تونس يوم الجمعة 29 أكتوبر 2021 التصويت على قرار مجلس الأمن الخاص بتمديد مهام عمل بعثة المينورسو في نزاع الصحراء 2602. وتوجد شكوك حول حضور ومشاركة موريتانيا في الموائد المستديرة حول البحث عن حل لهذا النزاع، وأصبحت قضية الصحراء محددا للعلاقات بين باريس و الجزائر. كل هذه المعطيات ضمن أخرى تبرز كيف حولت الجزائر هذا الملف إلى عامل رئيسي لتحديد تطورات العلاقة في غرب البحر الأبيض المتوسط:
بعد رحيل محمد عبد العزيز منذ سنوات وهو الذي قاد جبهة البوليساريو لمدة عقود بما فيها الحرب واتفاقية الهدنة، ثم نجاح الحراك الشعبي في الجزائر طرد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي يفترض أنه كان مهووسا بإضعاف المغرب، انتشرت التحاليل السياسية التي تتحدث عن قرب انفراج في نزاع الصحراء واقتراب تعزيز عمل الاتحاد المغربي العربي. واعتمدت هذه التحاليل على معطى مفاده تأثير أحداث الماضي على هذه الشخصيات مثل حرب الرمال سنة 1963 بالنسبة لبوتفليقة وحروب الصحراء ما بين 1975 إلى 1991 في حالة محمد عبد العزيز. وحدث العكس، فقد شهد ملف الصحراء توترا خطيرا يتجلى في عودة البوليساريو إلى الحرب التي لا تتعدى الآن مناوشات عسكرية، وفشل مجلس الأمن في التوصل إلى وقف هذه المناوشات كما جاء في القرار المصادق عليه مؤخرا. ويبقى الجديد في هذا الملف بل المقلق بدرجة «الخطورة» هو قرار الجزائر تحويله إلى ملف رئيسي في أجندتها السياسية والعسكرية الخارجية أساسا. وعلاقة بهذا، اتخذت الجزائر خطوات ملفتة ذات الطابع الجيوسياسي بسبب النتائج التي تترتب عنها. وتبقى أبرز الخطوات هي:
في المقام الأول، تبنت الجزائر ملف الصحراء منذ السبعينات، فهي التي تسلح البوليساريو وتمده بالدعم الدبلوماسي، لكنها وخلال الأسابيع الأخيرة، رفعت الملف إلى مستوى أعلى بتعيينها مسؤول دبلوماسي عن الملف وهو عمار بلاني الذي أصبح يتولى مهام الترويج مجددا للملف أمام دول أفريقية وأوروبية وآسيوية. واعترفت الجزائر بتراجع ملف الصحراء خلال حقبة بوتفليقة وتريد الآن استعادة المبادرة والزمن الضائع.
في المقام الثاني، اعتبرت منطقة الصحراء المغربية امتدادا لأمنها القومي، كما جاء في تصريحات رئيس أركان الحرب شنقريحة في خطاب له منذ شهرين. وأقدمت على توقيع اتفاقية حدود مع جبهة البوليساريو كممثل للجمهورية التي أعلنتها. وتحاول من خلال هذه المواقف الجديدة اكتساب شرعية التدخل وأساسا الدعم العسكري المعلن للجبهة. ويبقى الملفت هو اعتبار الصحراء امتدادا لأمنها القومي، وهو مبرر مقلق في أنظار الخبراء لأنه قد يدفع إلى اندلاع حرب في أي وقت بين المغرب والجزائر. ويضاف هذا إلى الاتهامات التي توجهها الجزائر إلى المغرب بالتآمر عليها مع دول أجنبية منها إسرائيل ودعم حركة القبايل التي تصنفها بالانفصالية.
في المقام الثالث، أعلنت الحرب الدبلوماسية والاقتصادية ضد فرنسا بسبب دعمها للمغرب في نزاع الصحراء. وتضع هذا البلد الأوروبي أمام اختيارين، التقليل من دعم المغرب وتحقيق توازن في علاقات باريس مع كل من الرباط والجزائر بما في ذلك في نزاع الصحراء أو التهميش المطلق لقوى اقتصادية أخرى مثل الصين وتركيا. واتخذت الجزائر عددا من الإجراءات في هذا الشأن منها تقليص إشراف الشركات الفرنسية على مرافق عمومية مثل الميترو وخدمات الماء والكهرباء. وانتقدت الجزائر فرنسا خلال المباحثات حول القرار الأخير بسبب معارضة باريس تضمين القرار أي إشارة إلى تكليف المينورسو بمراقبة حقوق الإنسان.
في المقام الرابع، يسود الاعتقاد في تبني إسبانيا موقفا حياديا أكثر من الماضي بسبب ورقة الغاز الجزائري، إذ تستورد إسبانيا 50 في المئة من احتياجاتها من الغاز من هذا البلد المغاربي. وأصبحت مدريد الآن قلقة بعدما قررت الجزائر إغلاق أنبوب الغاز «المغرب العربي-أوروبا» الذي يمر عبر المغرب. وفي ظل أزمة الغاز في السوق الدولية وارتفاع أسعاره، ستكون مدريد أكثر حذرا في سياستها المغاربية وخاصة تجاه الجزائر. ولهذا، وخلال أقل من شهر، توجه وزير الخارجية الإسباني ألفاريس يوم 30 سبتمبر الماضي إلى الجزائر ثم النائبة الثالثة لرئيس الحكومة تيريسا ريفيرا إلى الجزائر الخميس من الأسبوع الجاري لضمان التوصل بالغاز. وكانت تصريحات وزير الخارجية السابقة غونثالث لايا دالة للغاية عندما بررت طلب الجزائر باستقبال زعيم البوليساريو إبراهيم غالي للعلاج من كوفيد-19 بأن «الجزائر دولة استراتيجية لإسبانيا لهذا لبينا الطلب». وكان استقبال إسبانيا لزعيم البوليساريو ما بين أبريل إلى يونيو الماضيين سببا في انفجار أزمة حقيقية بين الرباط ومدريد لم تشهد حتى الآن طريقها إلى الحل.
في المقام الرابع، تهدف الجزائر إلى جعل ملف الصحراء مقتصرا على المغرب وجبهة البوليساريو لفرض آليات جديدة حول البحث عن حل للنزاع، ولهذا قامت بالانسحاب من الموائد المستديرة للمفاوضات التي جرت خلال السنوات الأخيرة لتفرض واقعا جديدا على الأمم المتحدة وكرد على المغرب الذي يعتبرها طرفا مباشرا في النزاع.
في المقام الخامس، وعلاقة بهذا الموضوع، لقد نجحت الجزائر في جر تونس إلى صفها في هذا النزاع، ولعل رفض تونس التصويت على القرار يوم 29 أكتوبر 2021 خير دليل. لقد شكل الموقف التونسي مفاجأة للجميع وخاصة المغرب. في الوقت ذاته، تحاول إقناع موريتانيا بالانسحاب من الموائد المستديرة التي تشرف عليها الأمم المتحدة، حسبما أوردت الصحافة الموريتانية منذ أسبوعين، وذلك بهدف تعزيز البحث عن آليات جديدة للبحث عن الحل يشمل فقط مفاوضات بين المغرب والجزائر. ويعد الموقف التونسي في مجلس الأمن ثم فرضية انسحاب موريتانيا بمثابة إعلان لتجميد كلي لاتحاد المغرب العربي بحكم أن المغرب يعتبر قضية الصحراء مصيرية ولن يشارك في أي اجتماعات مع دول يعتبرها غير ودية.
في المقام السادس والأخير، هو تولي روسيا الدفاع عن مواقف الجزائر في مجلس الأمن، فقد عادت للتركيز على استفتاء تقرير المصير والتحذير من الدفع نحو حل أحادي غربي. وكان ملف الصحراء في الماضي قد شهد تراجعا في أجندة روسيا، ولكن سعي موسكو إلى صياغة نفوذها في العالم سواء العسكري والسياسي، يجعلها تنسق مع «الحليف الجزائري» بشكل مكثف في هذا النزاع. ورغم تصويت الصين على القرار الأممي 2602 فخلال المباحثات حول القرار انضمت إلى أطروحة روسيا.
وبهذا، كل التطورات المتسارعة التي يشهدها ملف الصحراء هي مؤشر على تحول النزاع إلى عنوان لحرب باردة إقليمية يشهدها غرب البحر الأبيض المتوسط وستؤثر في بعض أحداثه وعلاقات بعض الدول ببعضها البعض. ولعل المثال هو: بعد قرار تونس رفض القرار الأممي، والذي فسره المغاربة بانحياز هذا البلد إلى أطروحة الجزائر، هل ستبقى علاقات الرباط وتونس مثلما كانت حتى الأمس القريب. وإذا انسحبت موريتانيا من مائدة المفاوضات هل ستبقى علاقاتها جيدة مع الرباط وإذا بقيت هل ستبقى علاقاتها جيدة الجزائر. وإذا لمست فرنسا طردا اقتصاديا من الجزائر ورفع هذا البلد الأخير للتنسيق مع روسيا عسكريا في غرب البحر المتوسط هل ستعيد النظر في سياستها المغاربية أم لا؟ علما أن التوتر الفرنسي-الجزائري من ضمن أسبابه إضافة إلى الذاكرة الاستعمارية ملف الصحراء.
كل قرار حول الصحراء يترتب عنه نتيجة في هذا الاتجاه أو ذاك. ولهذا فنزاع الصحراء أدخل غرب البحر الأبيض المتوسط في حرب باردة جديدة.