تفاجأ الجزائريون بخبر عودة سفير بلادهم محمد عنتر داود إلى فرنسا سرا، بعد قرار استدعائه في أوجّ الأزمة الدبلوماسية الحادة بين البلدين، ولم تشر إلى ذلك أي جهة رسمية، إلى أن جاء احتجاج فرنسي من تصريحات جديدة للسفير.
وطالبت السلطات الفرنسية من نظيرتها الجزائرية احترام سيادتها الوطنية، بالشكل الذي تطلبه لنفسها لمّا يتعلق الأمر بتصريحات أو مواقف فرنسية. وذلك في أعقاب تصريحات السفير الجزائري الذي عاد إلى ممارسة مهامه في باريس دون إعلان رسمي أو تسوية صريحة لأسباب استدعائه مؤخرا للتشاور، وهو ما يضفي حالة من الغموض على العلاقات بين البلدين، وفيما يستعر السجال الدبلوماسي في العلن تتم التسوية في السر.
ولم يتم الإعلان في الجزائر عن عودة السفير إلى موقعه، ولا عن أي خطوة قامت بها السلطات الفرنسية تجاه الجزائر، بعدما رهن الرئيس عبدالمجيد تبون في تصريح لوسائل إعلام محلية- عودة السفير بتصحيح خطأ وقع فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حين أطلق تصريحات مثيرة مسّت من تبون نفسه وشككت في تاريخ البلاد.
محمد عنتر داود: من غير المقبول ألا تؤثر الجزائر على مستوى السياسة الفرنسية
ويبدو أن السجال المحتدم بين البلدين موجه بدرجة كبيرة للاستهلاك السياسي في البلدين، فماكرون يريد سحب ورقة الهجرة والعلاقة مع أكبر المستعمرات القديمة من تيار اليمين المتطرف، وتبون يريد دغدغة مشاعر العداء التاريخي المتصاعد في الآونة الأخيرة، واستمالة قطاع من الشارع الجزائري إلى صفوف السلطة من أجل ترميم أزمتها الشعبية.
ووصفت صحيفة “الوطن” الناطقة بالفرنسية والمحسوبة على التيار الفرنكفوني عودة السفير إلى باريس سرّا بـ”العار”، وعللت ذلك بكون الخطوة لم تحقق مطالب الجزائر، وأنه حتى الأسباب التي دعت إلى استدعائه لم تنتف من واجهة الأحداث، حيث مازالت حالة من الاحتقان الظاهر في علاقات البلدين.
وأخفقت عودة السفير محمد عنتر داود إلى باريس في طي صفحة الأزمة بين البلدين، وساهمت في تفجير سجال متجدد، بعد تصريحات أغضبت الفرنسيين، واستدعت إصدار بيان من طرف وزارة الخارجية، دعت فيه الجزائر إلى “احترام السيادة الفرنسية بالشكل الذي تريده لنفسها”.
جاء ذلك في أعقاب دعوة وجهها محمد عنتر داود إلى الجالية الجزائرية في فرنسا، من أجل لعب دور فعال في المشهد السياسي الفرنسي، و”تشكيل رافعة” للمساهمة في الحياة السياسية الفرنسية.
وذكر بيان الخارجية الفرنسية أن “وزير أوروبا والشؤون الخارجية جدد الأسبوع الماضي التأكيد على تمسك فرنسا باحترام السيادة الجزائرية. من البديهي أن نتوقع من كل شركائنا أن يحترموا سيادتنا”.
وخلال ندوة خُصّصت لإحياء ذكرى مجازر 17 أكتوبر 1961 صرح السفير الجزائري بالقول “من غير المقبول ألا تتمكن الجزائر التي تتوفر على أكبر جالية أجنبية في فرنسا و18 قنصلية، الأخذ بزمام الأمور من أجل المساهمة ليس في السياسة الجزائرية فحسب بل أيضا على مستوى السياسة الفرنسية”.
كما دعا جالية بلاده إلى “الاستثمار في الجزائر وليس فقط في فرنسا” -في إشارة إلى النخب الاقتصادية والمالية المهاجرة التي تدير مشروعات ناجحة في فرنسا- وذلك بالمساهمة في تفعيل وتيرة الحركة الاقتصادية والمالية في البلد الأم.
وفي ظل هذا التباين في المواقف بشأن علاقات البلدين، والاستثمار السياسي في الأحداث التاريخية المشتركة، عاد سيناريو التسوية السرية للخلافات المستجدة بين البلدين وترْك السجالات الإعلامية والسياسية للاستهلاك الشعبي في البلدين، من يمين متطرف في باريس، ومتمسكين بمشاعر القومية والخطاب الثوري المعادي للاستعمار في الجزائر.
ولم تستبعد مصادر سياسية حصول لقاءات بين وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة ونظيره الفرنسي جون إيف لودريان في طرابلس على هامش مؤتمر استقرار ليبيا، من أجل التخفيف من آثار الأزمة والتمهيد لترسيم تهدئة بين الطرفين.
ولئن كانت تصريحات ماكرون قد حاولت إحداث شرخ بين تبون والنخبة العسكرية المحيطة به من خلال تصريحه بأن “الرئيس الجزائري عالق في نظام صلب” -في إشارة إلى قادة المؤسسة العسكرية- فإن تبون بدوره أطلق رسالة تعزل ماكرون، الذي وصفه في أكثر من مرة بـ”النزيه والمتفتح”، عما أسماه “اللوبيات” الضاغطة في فرنسا من أجل تعكير أي تقارب بين البلدين يحترم مبدأ الندية ومعالجة مُرضية للطرفين لملف الذاكرة الجماعية.
وفي ظل التسوية غير المعلنة للأزمة والتنازلات غير المصرح بها لهذا الطرف أو ذاك، تتجه الأنظار إلى معرفة مصير قرار حظر الطيران العسكري الفرنسي فوق الأجواء الجزائرية، وهل سيتم التراجع عنه؟ وكيفية عزل الأزمة عن التداول الشعبي والسياسي في البلدين، خاصة في ظل الجهود المشتركة للبلدين في مجالات الأمن والحرب على الإرهاب.