تصريحان متناقضان تماما صدرا في يوم واحد عن مصدرين مختلفين، وتعلقا بالمعضلة الصحراوية. تحدث الأول عن ضرورة تصحيح خطأ تاريخي يخص علاقة الافارقة بالبوليساريو، فيما تكلم الثاني عن ضرورة تصحيح خطأ آخر وصفه بالخلل الذي دام لأكثر من ثلاثين عاما، في تعاطي المنتظم الأممي مع تلك القضية.
ورغم أن البون شاسع بين ما جاء في نص البيان الصادر في أعقاب ندوة إقليمية عقدت السبت الماضي في تنزانيا، من أن «قبول ما يسمى بالجمهورية الصحراوية داخل المنظمة الافريقية، كان خطأ تاريخيا جسيما» يقتضي تصحيحه، وطردها من الاتحاد الافريقي، وما صرح به زعيم البوليساريو في اليوم نفسه، من أنه من الضروري تصحيح ما وصفه بالخلل في تعامل الأمم المتحدة مع النزاع الصحراوي.
إلا أن تحميل الجانبين مسؤولية أخطاء يرون أنها حصلت في السابق، وبشكل أساسي للمنظمتين، يطرح تساؤلا حادا، عما إذا كانت الهيئات الإقليمية والدولية هي التي أخطأت بالفعل؟ وعما إذا كانت قادرة على أن تقوم بالمراجعات المطلوبة وتتدارك زلاتها وهفواتها، وأن تسهم الآن في حل نزاع عجزت عن حسمه على مدى أكثر من أربعة عقود كاملة، وتقف في سبيل ذلك أمام أي طرف قد يكون استفاد أو لا يزال يستفيد إلى اليوم من عدم غلق الملف، وإبقائه مفتوحا إلى أجل غير مسمى؟ عمليا فإن ذلك لا يبدو ممكنا إلا في الخيال، لكن هل خرج الأمر تماما كما بات يرى كثيرون عن إرادة تلك المنظمات، أو عما يعبر عنه معظم أعضائها في جلساتهم واجتماعاتهم من نوايا وتطلعات صادقة، وصار معلقا فقط بما تقرره بعض القوى الإقليمية والدولية وحدها، وعلى انفراد وما تتفق عليه في ما بينها خارج تلك الهيئات، وداخل بعض الدوائر الأخرى المغلقة والضيقة؟ لا شك في أن الخيارات المطروحة على الطاولة ضيقة ومحدودة، فهناك وبالأساس حلان اثنان، إما أن تمزق الخريطة المغاربية وتفتت أكثر مما فتتت من قبل، وتدخل تبعا لذلك تعديلات عميقة على الحدود الداخلية للشمال الافريقي، وتوضع بموجبها دولة سادسة بين دوله الخمس، وهو ما لا يمكن تخيل عواقبه، وما قد ينجر عنه من تداعيات وانعكاسات على المنطقة بأسرها. وإما أن يقتنع الجميع بالحاجة العاجلة والملحة للبدء بتصحيح تاريخي معمق، يشمل كل رواسب ومخلفات الحرب الباردة، وينتهي إلى سحب ورقة التجاذبات الإقليمية والدولية، التي طبعت القضية الصحراوية على مدى عقود طويلة من أي تداول أو رواج، ويسمح تبعا لذلك للصحراويين بأن يدخلوا العصر بروح جديدة، ويتطلعوا للمستقبل من غير أحقاد داخل المغرب، وفي إطار مغرب عربي كبير. ومن سيلقى عليه الشهر المقبل العبء الأكبر للتصدي لتلك المهمة الصعبة، لإدارة حوار بين أطراف النزاع، قصد الوصول لحل من الحلين، هو الدبلوماسي المخضرم ستيفان ديمستورا، لكن ما الذي رجح كفته على غيره وجعله ينجح في ما فشل فيه ما يقرب من اثني عشر دبلوماسيا، رشحوا على مدى العامين الأخيرين لمنصب المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة للصحراء، واصطدمت ترشيحاتهم برفض هذا الطرف أو ذاك لها؟ وهل يملك الدبلوماسي السويدي الإيطالي الأصل، الذي أعلن رسميا مطلع الشهر الجاري عن تعيينه، في تلك الخطة بالفعل، أي ميزات أو مواهب استثنائية تجعله أقدر وأجدر من أي دبلوماسي دولي آخر أمسك واحدا من أعقد الملفات الدولية، وهو ملف الصحراء في ظرف في مثل هذا التعقيد؟ لعل شغور المنصب لأكثر من عامين، والتطورات التي حصلت في المدة التي فصلت بين الإعلان عن استقالة سلفه هورست كوهلر آخر مبعوث أممي للصحراء، وتعيينه خلفا له، جعلت مثل ذلك التساؤل يبدو ثانويا أمام الحاجة الملحة لملء الفراغ، والبحث عن فرصة لتحريك الأمور من جديد، خصوصا مع ارتفاع حالة التوتر في المنطقة، لكن السؤال هو، هل أن ذلك التعيين هو وفي حد ذاته خطوة للأمام أم للوراء؟ لم يفوت زعيم البوليساريو فرصة الظهور في مؤتمر صحافي السبت الماضي ليقول إن «تعيين المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة ليس هدفا بحد ذاته، وإنما تصفية الاستعمار، هو الهدف الأساسي» على حد تعبيره، ويضيف أن «أهمية المبعوث الشخصي تكمن في قدرته على تنفيذ مأمورية المينورسو» ثم يؤكد بعدها أن «تعيين ديمستورا جاء في سياق انهيار وقف إطلاق النار، واستئناف الكفاح المسلح ووجود وضعية جديدة تتطلب تعاملا مختلفا لتصحيح الخلل، الذي دام لمدة ثلاثين سنة وقاد إلى الحرب». أما الشكل الذي قد يراه ابراهيم غالي مناسبا للبدء بما سماه تصحيح الخلل، فهو أن يتضمن قرار مجلس الأمن المتوقع صدوره أواخر الشهر الجاري «مأمورية واضحة للمبعوث الشخصي الأممي ومهمته المحددة أصلا، وهي استكمال تصفية الاستعمار، وتنظيم استفتاء دون تأخر، وجدول زمني لعملية التطبيق، إضافة إلى ضمانات قوية من قبل مجلس الأمن من أجل الانخراط في العملية» مثلما جاء في تصريحاته. لكن المفارقة هو أن المتحدث هو أكثر شخص يدرك صعوبة، وحتى استحالة تنظيم ذلك الاستفتاء على تقرير مصير الصحراء.
من العبث أن يتخيل أحد أن المبعوث الأممي شخص خارق، بإمكانه اجتراح المعجزات وتلبية ما قد يصله من هذا الطرف أو ذاك من طلبات
فما الغاية إذن من وراء تقديمه لتلك الطلبات؟ لعل ما دفعه إلى ذلك هو تقديره أنه من المناسب الآن، وفي وقت يستعد فيه ديمستورا لمباشرة مهامه في المنطقة، أن يجس نبض الأخير، ويستكشف الطريقة التي سيتعامل بها المبعوث الدولي مع أطراف النزاع، وما ردّ فعله في صورة ما إذا قدمت البوليساريو شروطا لاستئناف المفاوضات مع المغرب. ولأجل ذلك فإن رفع السقف عاليا من خلال الدعوة لحصر مهام المبعوث الأممي فقط في تنظيم الاستفتاء، ووضع جدول زمني لتلك العملية، والبحث عن ضمانات قوية، حتى إن كانت غير معلومة، أو محددة من طرف مجلس الأمن قبل إعطاء الموافقة على الدخول مجددا مسار المفاوضات، كل ذلك قد يكون الغرض منه هو الحصول على تنازلات أدنى، كأن ينجح البوليساريو في إقناع المبعوث الأممي الجديد، بأن يطلب من المغرب أن يسحب قواته من الكركرات مثلا، مثلما دعت لذلك الجزائر في أول تعليق رسمي للناطق باسم خارجيتها على تعيين ديمستورا في المنصب، لكن ألا يحمّل الرجل هنا أكثر مما يحتمل؟ أليس من العبث أن يتخيل أحد أن المبعوث الأممي هو شخص خارق، بإمكانه اجتراح المعجزات وتلبية ما قد يصله من هذا الطرف أو ذاك من طلبات.
إن أصدق كلمة في تصريحات زعيم البوليساريو قد تكون تلك التي قال فيها إن تعيين الرجل ليس هدفا في حد ذاته، فديمستورا أو أي دبلوماسي أممي هو جزء من كلٍ، وقطعة في آلة ضخمة ومعقدة تختلط فيها الحسابات والتوازنات والمعادلات الدولية. ولأجل ذلك فلا فرق إذن بين من يحمّل المنظمات الدولية المسؤولية عما يراها أخطاء ارتكبت بحقه، ومن ينتظر من المبعوث الدولي أن يصححها بشكل أو بآخر. فالحكمة العربية تقول: ما حك جلدك مثل ضفرك.