تحول ملف الذاكرة الذي فاقمته تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة إضافة إلى عداء إسرائيل إلى ورقتين في يد النظام الجزائري لامتصاص غضب الشارع الرافض للسلطة القائمة، وللتغطية على فشله في إدارة الأزمات التي ترزح تحتها البلاد.
حوّلت السلطة الجزائرية ورقة الذاكرة التاريخية وإسرائيل إلى خطاب شعبوي لاستعطاف الرأي العام والتغطية على أزمة داخلية تتخبط فيها منذ سنوات، فبعدما عجزت عن تجديد نفسها بما يتوافق مع تطلعات الجزائريين إلى نظام سياسي ديمقراطي يكفل الحقوق الأساسية والتداول السلمي على السلطة، تلجأ إلى المزايدة واستغلال الورقتين لربح المزيد من الوقت على أمل استمالة الشارع الحاسم في مواقفه من القضيتين المذكورتين.
ورفعت السلطة الجزائرية من سقف عودة علاقاتها مع فرنسا إلى وضعها الطبيعي إلى مستوى غير مسبوق، واشترط الرئيس عبدالمجيد تبون عودة السفير الجزائري إلى باريس بمراجعة صريحة لمواقفها تجاه الجزائر والخروج من النظرة النمطية، حيث قال لوسائل إعلام محلية “على ماكرون أن ينسى أن الجزائر مستعمرة قديمة لبلاده إذا أراد علاقات ندية ومصالح مشتركة محترمة”.
وعلى غير العادة أصدرت وزارة الاتصال الجزائرية السبت عشية إحياء ذكرى مجازر السابع عشر من أكتوبر 1961 بيانا جددت فيه الموقف الجزائري تجاه الذاكرة، رغم أن الأمر كان يندرج سابقا في الشأن الفرنسي الداخلي لما يتعلق الأمر بالأحداث المذكورة، وهو ما يجسد التحول اللافت للنظام الجزائري في هذا المجال، ويكرس التوظيف غير الطبيعي للتاريخ في إدارة العلاقات مع الفرنسيين.
وذكرت وزارة الاتصال بأن “الجزائر ستلاحق فرنسا إلى أن تعترف بمسؤولياتها كاملة عن كل الجرائم التي اقترفتها خلال فترة الاستعمار، وأن مجازر السابع عشر من أكتوبر 1961 هي جزء من الحفاظ على الذاكرة والدفاع عنها والذي يعد واجبا مقدسا”.
وأضافت “تحيي بلادنا هذا الأحد الذكرى الستين لمجازر السابع عشر من أكتوبر 1961 التي اقترفها البوليس الفرنسي في باريس بكل وحشية وبربرية ضد المهاجرين الجزائريين المسالمين المطالبين بالحرية والسيادة والاستقلال، حيث تعرض هؤلاء المدنيون لأبشع صور البطش والتنكيل والتعذيب والاغتيال التي خلفت في يوم واحد 300 شهيد منهم النساء والأطفال والمسنون في بلد يسوق لنفسه بهتانا وزورا دور المدافع عن حقوق الإنسان”.
ورغم أن التصريحات المثيرة التي أدلى بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال الأسابيع الماضية تضمنت العديد من المسائل على غرار هيمنة العسكر على السلطة في الجزائر، ووقوع الرئيس تبون رهينة بين أيدي ما أسماه بـ”النظام الصلب” في إشارة إلى الجيش، وعلى النظرة والموقف الجزائري المتباين تجاه التواجد الفرنسي والتركي على الأراضي الجزائرية، إلا أن الخطاب الرسمي في الجزائر حوّل الأنظار كلها إلى التفصيل المتعلق فقط بالذاكرة الجماعية، لما قال ماكرون “لم أعرف الأمة الجزائرية قبل دخول الفرنسيين إلى الجزائر”، وتجاهل باقي التصريح.
ملف الذاكرة التاريخية وإسرائيل دخلتا في خطاب شعبوي رسمي في الجزائر يعمل على خلق أعداء من الخارج والداخل
وأشارت وزارة الاتصال في بيانها إلى أن “التعريف بهذه المحطات التاريخية الخالدة يعد واجبا وطنيا، والحفاظ على الذاكرة والدفاع عنها يعد واجبا مقدسا سنلاحق به فرنسا اليوم وكل يوم إلى أن تعترف بمسؤولياتها كاملة، وتلتزم بتحمل تبعات كل الجرائم التي اقترفتها ضد الأمة الجزائرية الأصيلة وشعبها الأبي”.
ودخلت الذاكرة التاريخية وإسرائيل في إطار خطاب شعبوي رسمي في الجزائر يعمل على خلق أعداء من الخارج والداخل من أجل حشد الشارع لمعركة تغنيه عن الأزمة الحقيقية التي تتخبط فيها البلاد خلال السنوات الأخيرة على مختلف الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولم يكفل سيناريو تغيير واجهة النظام عبر مؤسسات مدنية جديدة ردم الهوة السحيقة بين الشارع والسلطة، والتي تجسدت بشكل لافت في رفض الجزائريين للانخراط في خارطة طريق السلطة، وعبروا عن ذلك بالعزوف والمقاطعة القوية للاستحقاقات الانتخابية الأخيرة.
وفيما يجري التسويق لأخطار خارجية تهدد أمن واستقرار البلاد انطلاقا من باريس وتل أبيب والرباط، يجري خلق روابط داخلية تمهيدا لفرض حالة استثنائية في البلاد بدعوى محاربة تنظيمي “ماك” و”رشاد” اللذين صنفا كحركتين إرهابيتين وتم الإعلان عن “تفكيك عدد من الخلايا المنضوية تحتهما”.
وكان الرئيس تبون قد صرح لوسائل إعلام محلية بأن “أدلة وقرائن دامغة توصلت إليها المصالح المختصة تفيد بضلوع الرباط وتل أبيب في أعمال عنف وتخريب أهمها موجة الحرائق التي طالت منطقة القبائل خلال الصائفة الماضية”، وهو ما يؤكد أن القطيعة المستجدة بين البلدين الجارين مرشحة لأن تكون طويلة الأمد، وأنه لا نية للجزائر التي رفضت مختلف الوساطات للعودة إلى الوضع السابق على الأقل.
وتعمل الجزائر على إيجاد روابط بين ما تصفه داخليا بـ”التنظيمات الإرهابية” وتقصد بها حركتي “ماك” و”رشاد” وبين أنظمة وعواصم إقليمية أدرجتها في خانة الدول المعادية، خاصة بعد ما أسماه تبون بـ”ضلوع المغرب ورفض باريس تسليمها زعيم الحركة الانفصالية البربرية المقيم في باريس فرحات مهني”، كما دخلت بقوة على خط دعم القضية الفلسطينية، وتقود حاليا مساعي حثيثة داخل الاتحاد الأفريقي لرفض قبول عضوية إسرائيل كمراقب في الهيئة المذكورة.
وصرح في هذا الشأن وزير الخارجية رمطان لعمامرة بأن بلاده “دافعت رفقة العديد من دول الاتحاد الأفريقي عن المصلحة العليا لأفريقيا التي تتجسد في وحدتها وتماسك شعوبها من خلال رفض منح إسرائيل صفة المراقب في الاتحاد الأفريقي”.
وأضاف بأن “النقاش الذي دام ساعة بين وزراء الخارجية الأفارقة حول القضية المثيرة للجدل قد سلط الضوء على الانقسام العميق بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي، وأن اقتراح نيجيريا الذي تم وضعه مع الجزائر والذي يهدف إلى إعادة الوضع إلى ما كان عليه على الفور، لم تقبله أقلية ناشطة ممثلة بالمغرب وبعض حلفائه المقربين، بما في ذلك جمهورية الكونغو الديمقراطية التي ضمنت موقفًا متحيزًا بشكل خاص”.
ولفت إلى أن وزراء الأغلبية الحالية أدركوا أن “الأزمة المؤسسية التي نجمت عن القرار غير المسؤول لموسى فكي تدفع إلى جعل تقسيم القارة أمرا لا رجعة فيه، وأنهم وافقوا على طرح السؤال على قمة رؤساء دول الاتحاد الأفريقي المقرر عقدها في شهر فيفري المقبل، ويحدونا الأمل أن يكون مؤتمر القمة بمثابة بداية صحية لأفريقيا جديرة بتاريخها ونضالها”.