تتهيأ الحكومة الجزائرية، من خلال القانون الجديد للموازنة العامة ، لطرح مراجعة جوهرية لسياسة الدعم الشامل للمواد ذات الاستهلاك الواسع، عبر الانسحاب التدريجي، مقابل وضع آليات جديدة لدعم الأسر الفقيرة، وهو ما سيضع الجبهة الاجتماعية تحت الصدمة في ظل تدهور جديد للقدرة الشرائية يكون انعكاسه مباشرا على الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
تعكف الحكومة الجزائرية على إطلاق خارطة اجتماعية جديدة بأسماء الأسر والفئات الاجتماعية الضعيفة، للاستفادة من تحويلات اجتماعية نقدية مباشرة بداية من مطلع العام القادم، وفقا للتدابير التي أدرجتها في قانون الموازنة العامة لعام 2022، والذي تنوي من خلاله مباشرة انسحابها التدريجي من سياسة الدعم الحكومي المباشر للمواد الاستهلاكية ذات الاستعمال الواسع.
ولئن كان الأمر يمثل طلبا ملحّا لنقابات وقوى سياسية وتنظيمات مدنية، من أجل قطع الطريق على تحويل وجهة التحويلات الاجتماعية الشاملة إلى غير أصحابها ودخول فئات انتهازية على الخط، فإن المخاوف من الصدمة بدأت تلوح في أفق المجتمع، بسبب الشكوك في توفيق الحكومة في إطلاق خارطة اجتماعية حقيقية غير قابلة للتلاعب أو الإقصاء، على اعتبار أن الانسحاب الاجتماعي يعني تحرير أسعار الكثير من المواد الاستهلاكية.
وتضاربت البيانات بشأن الأرقام الحقيقية للتحويلات الاجتماعية المباشرة وغير المباشرة، ففيما تحدث بعهضها عن قيمة سبعة عشر مليار دولار سنويا، تحدثت أخرى عن نحو أربعين مليار دولار خلال الخمس سنوات الأخيرة، غير أن توسع قاعدة الدعم في السياسات الحكومية المتعاقبة يرجح فرضية الخيار الأول، على اعتبار أن الأمر لا يتعلق بالمواد الغذائية فقط، بل يمتد إلى قطاعات أخرى كالسكن والصحة والوقود والكهرباء والماء، وغيرها.
في الجزائر يسود إجماع حول ضرورة مراجعة سياسة الدعم الاجتماعي بشكل يضمن تخفيف العبء على الخزينة العمومية
وحذر حزب العمال اليساري في أكثر من مناسبة مما أسماه بـ”التفريط في خيار الدولة الاجتماعية الموروث عن ثورة التحرير، والذي يعدّ أحد مبادئ الدولة الوطنية، التي تكفل كرامة الحياة والعيش للفرد الجزائري في مختلف وضعياته”، وهو الأمر الذي تتظاهر به السلطة، رغم نواياها في بدء التراجع عن السياسة الاجتماعية التي أنهكت الخزينة العمومية، لأنها تمثل خمس الناتج الداخلي الخام.
وكان الرئيس عبدالمجيد تبون قد أكد في تصريحه الأخير لوسائل إعلام محلية، أن “الدولة ثابتة على مبادئها الاجتماعية وأنها ستبقى إلى جانب الفئات الاجتماعية الهشة”، غير أن ذلك لا يحجب الحقيقة الاجتماعية والاقتصادية التي تتدهور تدريجيا خلال الأشهر الأخيرة، بسبب تراجع القدرة الشرائية وموجة الغلاء الفاحش للأسعار، مما أفرز تحولات اجتماعية غير مسبوقة تمثلت في توسع رهيب لدائرة الفقر.
وتبقى الجبهة الاجتماعية هي الهاجس الأكبر للحكومة، التي تخشى من أن أي انفجار قد يزيد من متاعبها السياسية، خاصة في ظل بروز مؤشرات على احتجاجات واضطرابات هددت عدة نقابات مستقلة بشنها خلال الأسابيع القليلة القادمة، للتنديد بعجز الحكومة عن تحقيق توازنات ثابتة خاصة لدى طبقة العمال المتضررة من الاشتعال غير المسبوق للأسعار.
وأعرب رئيس جمعية حماية المستهلك مصطفى زبدي عن مخاوفه من الخيارات المنتظرة في قانون المالية الجديد، في ظل غياب نقاش وشفافية حقيقية حول إعداد الخارطة الاجتماعية الجديدة، والآليات الموضوعية لتصنيف الأسر والفئات والأفراد المستحقين للدعم الحكومي، وإمكانية تسلل نفس العناصر التي أجهضت سياسة الدعم الشامل.
ورغم ذلك يسود إجماع لدى مختلف الفاعلين في الجزائر حول ضرورة مراجعة سياسة الدعم الاجتماعي، بشكل يكفل تخفيف العبء على الخزينة العمومية ويضمن التكفّل بالفئات والأسر المعوزة، خاصة في ظل تغلغل لوبيات الاحتكار والتهريب، التي تستغل الدعم الشامل لتحقيق أرباح إضافية من المواد المدعمة سواء في الاستغلال الداخلي أو التهريب عبر الحدود البرية إلى دول الجوار.
وفي خطوة تستهدف التخفيف من وطأة الضغط الاجتماعي على الاستقرار الداخلي، عمدت الحكومة إلى استحداث منحة للبطالة لأول مرة، أعلن عنها الرئيس تبون خلال الأسابيع الأخيرة والتي ستمسّ البطالين بين سن الثلاثين والستين، حيث سيستفيدون من نحو ثمانين دولارا أميركيا شهريا، كما ينتظر مراجعة بعض الرسوم والضرائب المتعلقة بالضريبة على الدخل، من أجل السماح بارتفاع الدخل الشهري، غير أنّ ارتفاع مؤشر التضخم البالغ حوالي خمسة في المئة حسب بيانات رسمية، يهدّد بالتهام أي زيادة في الرواتب.
وتسجل الموازنة الجزائرية خلال العام القادم عجزا تاريخيا يقدر بحسب وثيقة مشروع قانون المالية بنحو واحد وثلاثين مليار دولار، بارتفاع يقدر بحوالي تسعة مليارات دولار مقارنة بالعام الجاري، وهو ما يضع التوازنات الكبرى للبلاد في حالة حرجة للغاية.
وأوضح نص المشروع المتعلق بإطلاق جهاز الدعم المباشر، بأنه “سيدخل حيز التنفيذ عقب مراجعة وتعديل أسعار المنتوجات المدعمة والذي يتجسّد في تحويلات نقدية ومباشرة لصالح الأسر المؤهلة، حيث تحدّد كيفيات تطبيق هذه المادة بنصوص تطبيقية لاسيما قائمة المنتوجات المدعمة المعنية بمراجعة الأسعار، فئات الأسر المستهدفة، ومعايير التأهيل للاستفادة من هذا التعويض وكذلك كيفيات التحويل النقدي”.
وفي شرحه للأسباب الكامنة وراء ذلك، ذكر النص أن “الدولة الجزائرية ضمنت من خلال سياستها الاجتماعية حماية القدرة الشرائية للطبقات الاجتماعية المحتاجة والفقيرة والهشة وكذلك بالنسبة للطبقات المتوسطة، وهذا عبر عدة أجهزة للإعانات المباشرة وغير المباشرة، بغية الانتقال من أجهزة الدعم المعمّمة نحو دعم موجّه لصالح الأسر المحتاجة وبالتالي ضمان العدالة الاجتماعية من جهة، والاستجابة لانشغالات الطبقة السياسية لاسيما النواب”.
وأضاف “تم اقتراح هذه المادة في قانون المالية لوضع جهاز إعانات الدولة لفائدة الأسر ذات الدخل الضعيف والمتوسط، فإن التقديرات الأولية لمستوى الدعم سجلت في المتوسط خلال الفترة ما بين 2012-2017 مبلغا يقارب تسعة مليارات دولار سنويا، وهو ما يعادل أكثر من تسعة عشر في المئة من الناتج الداخلي الخام، ما يمثل ما بين ثلاثين وواحد وأربعين مليار دولار حسب تغيرات سعر الصرف”.