سيطرة المغرب على الكركرات

بولحية

إن تركنا جانبا ما تقوله الجزائر عن دفاعها المستميت عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، فما مصلحتها في طلب انسحاب المغرب من منطقة لا تنازعها السيادة عليها؟ وهل أن هناك بالمقابل ما يمكن أن يدفع الرباط لأن تفكر في ترك الكركرات، ولو لقوات أممية لحفظ السلام؟ منطقيا لا شيء قد يبرر، أو يفسر ذلك، أو يجعل المغاربة يقدمون على خطوة مماثلة. لكن ماذا لو عرض عليهم، وفي إطار خطة أممية شاملة لتسوية المشكل الصحراوي، أن يسحبوا قواتهم من هناك مقابل تخلي قوات البوليساريو عن بعض المناطق الصحراوية، التي تسيطر عليها وتدعوها بالمحررة، في ما تصفها الأمم المتحدة بالعازلة؟ هل سيصبح الأمر في تلك الحالة ممكنا؟ وهل سيقبلون حينها بنوع من الانسحاب التكتيكي، أو ما يمكن أن يطلق عليه العسكريون إعادة انتشار عسكري للقوات في منطقة قاموا قبل عام فقط بطرد عناصر البوليساريو منها؟
ربما يعيد تكرار الطرف المقابل في النزاع، أي الجزائر، مرة بعد أخرى لمثل تلك الدعوات، سؤالا شائكا عما صارت تمثله الكركرات بالذات، لا بالنسبة لمستقبل الملف الصحراوي فحسب، بل بالنسبة لمصير الطموحات والمشاريع الجزائرية في الإقليم. فهل إنها باتت تمثل اليوم فعلا للجزائريين هاجسا أمنيا وسياسيا واستراتيجيا من أعلى الدرجات؟ لا شك بأن إقدام المغرب قبل نحو عام من الآن على طرد عناصر من البوليساريو كانت عمدت إلى قطع حركة المرور من وإلى المعبر الرابط بين المغرب وموريتانيا، شكّل صدمة كبرى لهم، وبعثر كثيرا من أوراقهم وحساباتهم. لكن ما الذي يمكن أن يفكر فيه الجزائريون الآن مع بدء تحريك الملف الصحراوي في المنتظم الدولي؟ ليس صدفة أن يصرح الناطق الرسمي باسم خارجيتهم الخميس الماضي، وفي أول رد فعل رسمي على إعلان الأمين العام للأمم المتحدة قبلها بيوم عن تعيين الدبلوماسي الإيطالي ستيفان ديمستورا مبعوثا شخصيا له للصحراء، بأن «تعيين السيد ديمستورا جاء في سياق متدهور ومحفوف بالمخاطر، لأنه يتميز باستئناف الأعمال العدائية بعد الخرق المفاجئ لوقف إطلاق النار من قبل قوات الاحتلال المغربية، التي تحافظ على وجودها غير الشرعي منذ 13 نوفمبر 2020 في المنطقة العازلة بالكركرات، في انتهاك صارخ للاتفاقيات العسكرية التي وقعها الطرفان، وصادق عليها مجلس الأمن». ويمضي بعدها فيضيف أن «تجريد هذه المنطقة، أي الكركرات، من السلاح المكرس في الاتفاقيات المعنية، يشكل حجر الأساس في أي عملية سياسية ذات مصداقية تهدف إلى إيجاد حل سلمي للنزاع». فمن الواضح أن استعادة الوضع الذي كان قبل العملية المغربية، التي أفضت إلى تحرير حركة العبور من وإلى المعبر الحدودي القريب من الحدود الموريتانية، صار أولوية للدبلوماسية الجزائرية، في مساعيها لاستعادة زمام المبادرة، والمسك مجددا بواحدة من أهم خيوط الملف الصحراوي التي فقدتها لسوء تقديرها. لكن السؤال هنا هو إن كانت الجزائر لا تخاطب من خلال ذلك البيان، وكما يبدو، غريمها المغرب، فهل إنها تلوح، ومن خلال ذلك بالمقابل، للهيئة الأممية بأنها قد تضع شرطا مسبقا أمام القبول بأي مسعى قد يقدم عليه المبعوث الأممي الجديد، لاستئناف مسار المفاوضات الذي بدأه سلفه، من خلال تنظيمه للموائد المستديرة بين الأطراف الأربعة المعنية بالنزاع، أي المغرب والجزائر وموريتانيا والبوليساريو، وهو انسحاب المغرب من منطقة الكركرات؟ وعلى فرض أن يحصل ذلك فهل سيقبل المغرب في تلك الحالة بالتخلي بسهولة عن المعبر، والتفريط في واحدة من أهم الأوراق الميدانية التي كسبها في حربه الطويلة للدفاع عن فكرة مغربية الصحراء؟

المغرب ليس مستعدا وتحت أي ظرف لأن يفرط في مكسب استراتيجي حازه

من الناحية السياسية قد يبدو ذلك مستبعدا، وربما غير وارد، أو ممكن بالمرة، لكن من الناحية الاستراتيجية فإن مناقشة المسألة ضمن إطار أوسع يشمل كل الأراضي التي تسيطر عليها البوليساريو، وتصفها بالمحررة، في ما تدعوها الأمم المتحدة العازلة، قد لا يكون كذلك، لكن من سيكون الرابح والخاسر في تلك الحالة؟ لنتخيل مثلا جلاء قوات البوليساريو عن المناطق التي تسيطر عليها الآن، فإلى أي مكان يمكنها أن تذهب؟ وهل إن عودتها إلى تندوف ستعد بمثابة النصر المؤزر لها؟ أم على العكس انتكاسة كبرى لأطروحاتها وفشلاً ذريعا للمشاريع والمطالب التي ظلت ترفعها لأكثر من أربعة عقود؟ إن التعارض الواضح في هذا الموضوع بين مطالبة المغرب بالانسحاب من جهة من منطقة صحراوية تعتبرها الأمم المتحدة عازلة، وغض الطرف من الجهة الأخرى عن وجود قوات البوليساريو في مناطق صحراوية عازلة غيرها، يجعل الغرض من طرح المسألة غير مفهوم؟ فما الذي تريده البوليساريو أو الجزائر، من وراء انسحاب مغربي من الكركرات، إن كان ذلك سيتزامن، أو يكون مشروطا بانسحاب مماثل لقوات الجبهة من المناطق الصحراوية التي توجد فيها الآن؟ من الواضح أن أي قوات أممية قد تتولى الإشراف على تلك المناطق لن تكون قادرة أو مؤهلة للسيطرة عليها بشكل تام وهو ما سيعطي لقوات البوليساريو هامشا واسعا للمناورة، ولشن حرب عصابات على القوات المغربية، تحت أي مبرر كان، لكن هل سيتضرر المغرب بشكل ما من الناحية التجارية أو الاقتصادية، إن صار معبر الكركرات خارج سيطرته الفعلية؟ قد يكون تخطيطه لبناء ميناء آخر، أو لتوسعة الموانئ الموجودة حاليا في مناطقه الجنوبية، هو الرد العملي على أي تهديد محتمل قد يطال مبادلاته أو تعاملاته البرية مع الدول الافريقية، لكن ما الذي سيحصل إن كررت البوليساريو ما قامت به أواخر العام من عمليات قطع الطريق، وإعاقة المبادلات من وإلى تلك الدول؟ هل سيتوسع حينها نطاق المواجهات لمدى أبعد؟ سيكون من غير الممكن أن نتوقع أن إصرار الجبهة ومن ورائها الجزائر على أن يخلي المغاربة تلك المنطقة بالذات، هدفه إتاحة المجال للقيام ببعض العمليات المحدودة والمعزولة لإعاقة المبادلات بين المغرب وجيرانه الافارقة. فأهمية الموقع الاستراتيجي للمعبر، التي تجعل المتحكم فيه قادرا على الإشراف على أقصى نقطة في الصحراء، لا تبعد إلا كيلومترات قليلة عن المحيط الأطلسي، وعن الحدود الموريتانية، وهو ما يعد في حد ذاته عنصرا بالغ الأهمية في تأمين أي سيطرة ميدانية في المنطقة يجعل الدوافع وراء مثل تلك المطالب أكبر من أن تقتصر على مجرد استنزاف قوات الرباط، أو القيام بعمليات قطع طريق على القوافل التجارية المغربية.
ولعل العاهل المغربي لم يفته التنبه لذلك، حين شدد في رسالة وجهها العام الماضي إلى الأمين العام للأمم المتحدة، وتضمنها تقرير الأخير إلى مجلس الأمن، على أن الإجراءت التي اتخذها المغرب في الكركرات «لا رجعة فيها»، ما يعني أن المغرب ليس مستعدا وتحت أي ظرف لأن يفرط في مكسب استراتيجي حازه. اما هل سيؤثر ذلك الموقف في مصير أي مفاوضات مقبلة حول الصحراء أم لا؟ فهذا سيكون مدار الاختبار الأول لنجاح أو فشل ستيفان ديمستورا في مهمته الجديدة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: