الدبلوماسية المنفعلة.. إلى أين تقود الجزائر

بليدي

المتابع للشأن الجزائري يلاحظ تحولا لافتا في الأداء الدبلوماسي للبلاد، فالرزانة والهدوء اللذان كانا مرادفين لها خلال عقود مضت، تحولا إلى انفعال وتسرع في معالجة الملفات والتطورات المستجدة، والقوة التي كانت ناعمة صارت تميل إلى الصدام، فيتم قطع العلاقات هنا، وسحب السفير هناك، وغلق الأجواء هنالك، وكأنه لم يعد ذلك هو الخيار الوحيد.

ويبدو أن المواقف الأخيرة، خاصة تلك المتصلة بالملف الفرنسي، تنطوي على العديد من الرسائل والدلالات، فالعلاقات الثنائية بين البلدين ظلت متذبذبة طيلة عقود كاملة، لكنها لم تصل إلى هذا المستوى من التراجع، وأن التقارب الذي حاول الرئيسان عبدالمجيد تبون وإيمانويل ماكرون إضفاءه على رؤيتهما للمستقبل لا يحظى بالإجماع في كلا البلدين.

صحيح الحضور الجزائري انكفأ خلال السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، لكن محاولة التدارك تتم بشكل مرتبك، فالتأثر بالأوضاع السياسية الداخلية وصراعات السلطة واحتجاجات الشارع، وقبلهما الشلل الذي أصاب مؤسسات الدولة، بسبب الشلل النصفي للرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، من 2013 إلى 2019، كلف الجزائر ضياعا أو تهديدا لمصالحها وغيابا عن أداء دورها، لكن على ما يبدو الرغبة الجامحة في التدارك السريع تجري بشكل متسرع.

كان بإمكان الدبلوماسية الناعمة الضغط على الفرنسيين، بمراجعة وضع نحو 400 شركة فرنسية عاملة في الجزائر، وتحوز على استثمارات حكومية منحت لها في وقت سابق بالتفاضل

الاستيقاظ من الغيبوبة التي طالت عدة سنوات، جاء بعد معطيات جديدة أفرزت في المنطقة، وبعد انطباعات معينة تبلورت لدى بعض الأطراف، على أن “الرجل المريض” يمكن تجاوزه أو تحييده، ولذلك كانت الصدمة قوية وبردود فعل لا تترجم التقاليد المعروفة للدبلوماسية الجزائرية، بعدما فضلت مباشرة الحلول غير الدبلوماسية.

ويقول الضالعون في الشأن الدبلوماسي إن جغرافيا المعارك المختلفة تحدد بشكل كبير استراتيجية خوضها وأدائها، فأن تكون المعركة بعيدة عن الحدود، ليس أن تكون على داخل الحدود، أو على الحدود نفسها، ومهما كانت وجاهة الذرائع والمبررات المرفوعة، فإن الإمعان في العداء يدفع الطرف الآخر بشكل طبيعي إلى الارتماء في أحضان ما يوصف بـ”العدو الأكبر” والاستقواء به، بعدما فقد كل الحظوظ في الحفاظ على “شعرة معاوية”، وهو وضع منهك ومستنفذ يعمل البراغماتيون على تفاديه.

وهنا يظهر واحد من أسرار الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، الذي كرس تفرده بالقرار السياسي، بالاحتفاظ لنفسه بملفي المغرب وفرنسا، وجرد وزراء الخارجية المتعاقبين منهما، لأسباب تعلمها خبرته وحنكته في الشأن الدبلوماسي، وبمجرد أن تغيرت خارطة الهيكل الدبلوماسي للبلاد، تفجرت نزاعات قوية، تراوحت بين قطع العلاقات وغلق المجال الجوي واستدعاء السفراء.  وظلت العاصمتان الرباط وباريس تخصهما القيادة الدبلوماسية بأحسن ما تملك من كوادر في الجهاز، لقناعة لديها بحساسية العلاقة الثنائية معهما، لكن يبدو أن المقاربة الجديدة تتجه نحو مسالك أخرى تكون قد وضعت الانفعال في صدارة الأداء الخارجي والتغطية على تجاذبات الداخل حول إعادة ترتيب الأصدقاء والشركاء والحلفاء.

ويبدو أن الرئيسين تبون وماكرون، على الخصومة المستجدة بين بلديهما مؤخرا، يشتركان في موقف ورؤية تخفيان وراءهما أسباب منطقية لحالة العداء المفاجئ، فقد سبق لتبون أن عبر عن “إعجابه بصدق ونزاهة ماكرون، لكنه يعاني من ضغط لوبيات لا تريد تطهير المناخ بين البلدين”، وعبر  ماكرون في تصريحه الأخير عن “إعجابه بانفتاح الرئيس تبون، لكن وقوعه رهينة لدى العصبة العسكرية الحاكمة يعيق تقارب البلدين”.

وهذا يوحي على الأقل جزائريا بأن المواقف الدبلوماسية الأخيرة لا تحركها مقاربة دبلوماسية بحتة، بقدر ما يحركها غياب إجماع داخل دوائر القرار حول ترتيب لائحة الحلفاء والشركاء والخصوم، وأن ماكرون لم يكن لينتفض بهذا الشكل، لولا شعوره بأن بلاده لم يعد مرغوبا فيها بمستعمرتها القديمة، في ظل تصاعد خطاب يقف وراءه ضباط سامون في الجيش ينبذ فرنسا ويعبر عن ارتياحه للوجهتين الروسية والصينية.

كما أن السباق المحتدم نحو قصر الإليزيه بعد نحو ستة أشهر، يضغط على ماكرون من أجل استعداء التواجد الأجنبي على بلاده، وعلى رأسه المغاربة والجزائريون، فسحب البساط من تحت أقدام اليمين المتطرف يحتم عليه افتعال خصومات مع البلد الأكبر في أفريقيا.

ويظهر أن السلطة الجزائرية تريد إضفاء شيء من الشعبوية على تعاطيها الدبلوماسي في بعض الملفات من أجل استمالة قطاع من الجزائريين لا يزال متعاطفا مع بروباغندا موروثة عن تركة قديمة قوامها الشعارات الجذابة والزعامات البراقة، وقد استعانت لأجل ذلك بوجوه مخضرمة، من أجل عودة ظاهرها استعادة دورها والدفاع عن مصالحها، وباطنها أمل في إقناع الجزائريين بوجاهة وجدوى السلطة الجديدة في البلاد.

من يدعمون السلطة، لهم وجهة نظر أخرى ترى أن الجزائر التي تعاملت بليونة مع قوى إقليمية ودولية كلفها تنازلا عن مصالحها، وأنه كان من الواجب إعادة الأمور إلى نصابها مع هؤلاء، خاصة وأن نواياهم وبصماتهم واضحة في استهداف الجزائر.

الاستيقاظ من الغيبوبة التي طالت عدة سنوات، جاء بعد معطيات جديدة أفرزت في المنطقة، وبعد انطباعات معينة تبلورت لدى بعض الأطراف، على أن “الرجل المريض” يمكن تجاوزه أو تحييده

ويرى هؤلاء أن هذا الموقف من باريس تحديدا يستمد من رغبة في إعادة الاعتبار للدور الجزائري سواء أكان ثنائيا أو إقليميا، وأن فرنسا التي ظلت تتعامل بدونية مع الجزائريين، بات يتوجب وضعها في حيزها الحقيقي، وما يؤول خارج هذا الإطار هو وفاء لروابط التبعية والولاء لقوة استعمارية تقليدية، خاصة وأن نوايا ماكرون في استفزاز الجزائر واضحة من خلال تكريمه لـ”الحركيين” وطلب الصفح منهم.

لكن مع ذلك تبقى الفورة والانفعال الأخير في حاجة إلى تبرير أكبر لتأكيد رفض مواقف الأطراف الأخرى، وإخراج السجالات الدبلوماسية المفتوحة، مما يتداول حول حسابات قريبة للشخصنة أكثر من مصالح دولة وشعب، فتصريح ماكرون، بتضييق خناق التأشيرة على رموز النظام الجزائري، تقابله في حقيقة الأمر عقارات وممتلكات وتسوّق ودراسة وأرصدة للكثير منهم في “عاصمة الجن والملائكة”.

كان بإمكان الدبلوماسية الناعمة الضغط على الفرنسيين، بمراجعة وضع نحو 400 شركة فرنسية عاملة في الجزائر، وتحوز على استثمارات حكومية منحت لها في وقت سابق بالتفاضل، وهناك من أنقذ من الإفلاس بفضل فرص السوق الجزائرية. فتلك هي الأوراق التي يمكن أن تثني باريس وليس الصراخ الذي يفقد صداه بعد وقت ومسافة قصيرين.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: