حميد ملزي من عامل جبس إلى خزانة أسرار مسؤولي الدولة في الجزائر

بليدي

لم يكن عامل تركيب البلاط في شركة شيّدت إقامة “نادي الصنوبر” بالعاصمة الجزائرية التي تضم العديد من المرافق الحكومية، يتخيل نفسه أنه سيصبح هو صاحب البلاط الحاكم، وبين يديه أسرار وخفايا أسر المسؤولين الكبار في الدولة، أو أن يصبح مليونيرا. أما الأقدار التي ساقته إلى هناك بفضل سلطة الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، فهي نفسها التي قادته إلى السجن وإلى تجريده من ممتلكاته الخيالية، لأن التوازنات التي قذفت به عاليا هي التي أسقطته أرضا.

الشبكة الكبرى

انتهت محاكمة أكبر شبكة مرتبطة بنظام بوتفليقة، إلى النطق بالسجن على العلبة السوداء المالكة لأسرار وخفايا أسر المسؤولين الكبار في الدولة، ويتعلق الأمر بمدير إقامة الدولة حميد ملزي، إلى جانب الرئيسين السابقين للحكومة عبدالمالك سلال وأحمد أويحيى، فضلا عن عدد من المقاولين والمسؤولين.

فرصة  ملزي الذهبية تعود إلى العام 1998 حين كلف بالإشراف على مشروع بناء فندق الشيراتون ذي الخمس نجوم

ورغم أن الحكم لم يتجاوز عقوبة الخمس سنوات سجنا، إلا أنه شكل نهاية رمزية لواحد من رجالات مرحلة بوتفليقة، التي استحوذت على ما كان يعرف بـ”المحافظة رقم 49”، التي ظلت محرمة على الجزائريين طيلة عقدين من الزمن، لأنها تحتوي مساكن كبار المسؤولين والنافذين في الدولة، وبين جدرانها تعالج المصالح وتبرم الصفقات وتقام التحالفات وتطبخ القرارات قبل أن تدخل حيز التنفيذ، كل ذلك تحت عيون وآذان ملزي.

الضاحية المعروفة بـ”نادي الصنوبر” تقع على الساحل الغربي للعاصمة، تعود بدايات تشييدها إلى سبعينات القرن الماضي، من أجل إقامة مساكن لكوادر الدولة، ومرافق حكومية لاحتضان الأنشطة الرسمية، لكنها أخذت طابعا آخر بعدما تحولت إلى محمية لهؤلاء تحت مسمى الحماية من التهديدات الإرهابية خلال العشرية الدموية، ثم إلى علامة اجتماعية توحي بالحظوة وعلية أصحابها، خاصة بعدما صار الدخول إليها لا يتم إلا باستظهار ببطاقة إقامة خاصة تخضع للرقابة والتدقيق من طرف حواجز الدرك المرابطة.

ملزي الذي بدأ مشواره عاملاً بسيطاً يتودد للمقيمين هناك لتثبيته في منصبه وترقيته في سلم الإدارة، تحوّل إلى مقصد كبار المسؤولين والنافذين للاستفادة من مزايا المحمية، ومن عامل بسيط تحول إلى رجل ثري يملك عشرات الملايين من العملة الصعبة والعقارات والشركات والممتلكات، وفوق ذلك هو خزانة أسرار ضخمة تتضمن الوجه الآخر لرموز ووجوه مرحلة بوتفليقة.

ويقول مصدر مطلع إنه ومنذ “نهاية سبعينات القرن الماضي، كان ملزي، مجرد عامل عادي مختص في تركيب البلاط ضمن مشروع إعادة تهيئة نادي الصنوبر، حيث كان ابن مدينة شرشال الساحلية، عكس زملائه يتقرب ويتودد إلى القاطنين بالإقامة من أجل نسج معارف تساعده على تحقيق أمنياته”.

ويضيف المصدر “كان طموحه الحصول على سكن في الإقامة، لكن نجاحاته تسلسلت وتولى عدة مسؤوليات بفضل مساعدات قدمت له من شخصيات كانت مقيمة هناك، وكان حريصا على تقديم كل الخدمات لهم، إلى أن وصل إلى منصب مدير إقامة الدولة”.

مدير أقوى من وزير

Thumbnail

غير أن مسار الرجل تعثر في منتصف تسعينات القرن الماضي، أقيل من منصبه بأمر من السلطات العليا آنذاك، كونها لم تكن راضية عن أدائه، واستخلفه مصطفى بيراف، الذي دخل بعدها السجن في إحدى القضايا، وهو ما فتح له الباب مجددا للعودة إلى منصبه بطموح أكبر، حيث تأكد له أنه لا مناص من جمع ثروة كبيرة لمزاحمة أصحاب القرار، وجاءته الفرصة الذهبية سنة 1998 لما كلف من طرف رئيس الحكومة آنذاك أويحيى للإشراف على مشروع بناء فندق الشيراتون ذي الخمس نجوم، وصار ملزي، رئيسا لمجلس إدارة بالتزامن مع استثمارات شخصية في السياحة والخدمات الفاخرة في ضاحية أسطاوالي المجاورة.

ويقول وزير السياحة الأسبق، ومرشح الانتخابات الرئاسية الأخيرة باسم حركة البناء الوطني عبدالقادر بن قرينة، إنه حاول وضع نشاط إقامة الدولة تحت مجهر الحكومة على اعتبار أنها واقعة تحت وصاية وزارة السياحة، ويضيف “حينها اصطدمت بنفوذ ملزي، وفي توقيت قياسي صدر مرسوم رئاسي يسحب المنطقة من الوزارة ويمنحها طابعا مستقلا”.

توسع نشاط ملزي وتغلغل نفوذه سلطا عليه الأضواء، وبقدر ما عزز مكانته وحمايته من طرف هرم السلطة، بقدر ما فتح عليه عيون الخصوم والمتربصين خاصة مع تصاعد رائحة الفساد من صفقات ضخمة قادت أصحابها إلى محاكمات تاريخية على غرار ما يعرف بـ”فضيحة الطريق السيارة  شرق غرب”.

ملزي يقول مخاطباً القاضي في كلمته الأخيرة قبل صدور الحكم “سيدي الرئيس لم أبدد الأموال، ولم أخالف القانون ولم أبرم صفقات مشبوهة. وقضيت 53 سنة في خدمة الوطن”

وأفضت التحقيقات الأمنية والقضائية التي فتحت العام 2015، إلى أن قضية الطريق السيارة ، نسجت خيوطها في مكتب مدير إقامة الدولة ملزي، وتضمنت الإفادة التي قدمها للقضاء، بأنه تعرف على المتورط الرئيسي في الملف مجدوب شاني، أثناء سفره إلى لوكسمبورغ كونها مقر البنك الجزائري الكويتي “كايك” الذي تكفل بتسيير مشروع فندق الشيراتون تقنيا وماليا. وأن عقيدا في الأمن الرئاسي ربط له اتصالا مع شاني، الذي التقاه في اجتماع مع المدير العام للبنك ذي الجنسية الجزائرية، ضم ممثلي مكتب الدراسات، وعرض عليه حينها التكفل بإقامته ومساعدته بناء على طلب عقيد الأمن الرئاسي، ثم تطورت علاقتهما أكثر بالتعرف على المدعو بوشمامة محمد،

أمين عام وزارة الأشغال العمومية، وبصفته يشغل وظيفة المكلف بالشؤون المالية للمجمع الصيني، الحائز على إنجاز الطريق السيارة ، والذي صرح لقاضي المحكمة عندما سأله عن ملزي وسبب توسطه، بأن “هذا الرجل الدولة كاملة تسكن عنده”.

وتذكر تقارير قضائية بأن القضية التي تورطت فيها الحلقة المقربة من نظام بوتفليقة، واتهم فيها إلى جانب ملزي وأبنائه، ورئيسي الوزراء السابقين سلال وأويحيى، عدد من المسؤولين والمقاولين، تتعلق بإنجاز 380 سكنا من نوع “شاليه” بإقامة الدولة بـ”نادي الصنوبر”.

وقد تمكن ملزي من تحويل 190 مليون يورو إلى إسبانيا عبر الشركة الصينية، التي اختارها عن قصد لإنجاز مشروع 380 سكنا، وذلك من خلال إساءة استغلال وظيفته بفرض اختيار متعامل أجنبي وإسداء أوامر وتعليمات لمرؤوسيه من أجل تفضيله ومنحه الصفقة بكل الوسائل والطرق، حسب التقارير المذكورة.

ويتعلق الأمر بالشركة الصينية “كينغ يونغ” رغم ضعف تنقيطها مقارنة بالعروض الأخرى، وظلت تحظى بحماية مدير الإقامة الرسمية، حيث كفاها شر الإجراءات الردعية رغم التقارير السلبية حول وتيرة ونوعية الأعمال المنجزة التي كانت تصله بصفة أسبوعية وشهرية بخصوص تقدم الأشغال في المشروع، فضلا عن تسجيل نقائص كثيرة كرداءة الأشغال سواء داخل الشاليهات أو خارجها، خاصة الأرضية، البلاط، الأبواب، والنوافذ، وكذلك الجدران الخارجية المحيطة بالبنايات.

ولفتت التحقيقات إلى أن الشركة الصينية أخلت بالتزاماتها بإنجاز المشروع خلال 24 شهرا، وذلك بتواطؤ من المدير العام ملزي، وإلى تضخيم كبير لفواتير التجهيزات، حيث جاء في التقارير بأن الخزائن قدرت بـ4860 يورو للواحدة، والأرائك بقيمة 6750 يورو للواحدة، والموائد 2065 يورو للواحدة، وأن الفواتير المذكورة كان يقدرها بحسب درجة القرب والعلاقة بصاحب السكن.

نهاية الإمبراطورية

التقارير القضائية تقول إن القضية التي حوكم عليها ملزي تورط معه فيها رئيس الوزراء السابق أويحيى وآخرون

وظف الرجل منصبه في إدارة الضاحية الرسمية، وشبكة علاقاته مع كبار مسؤولي الدولة والنافذين والمتهافتين على بطاقة “مقيم” بكل ما تحمله من حظوة ومكانة اجتماعية عالية، في تكوين ثروات ضخمة، خاصة بعدما فتحها أمام رعايا فرنسيين ومهاجرين جزائريين مقابل الحصول على مزايا في باريس والعواصم الأوروبية. وتذكر التفاصيل أن نفوذ ملزي سمح له بتحويل عيادة صحية في المنطقة، إلى فيلا فاخرة لزوجته، ورغم امتلاكه لسكن آخر داخل الإقامة، إلا أنه قام بالاستحواذ على عدة مرافق وشاليهات، وحتى سكريترته صارت رقما صعبا في مملكة آلملزي، خاصة في مجال السكن والعقارات.

وجاء العرس المشهود وطلقة الرصاص في حفل زفاف نجله، ليزيدا من متاعب الرجل ويفتحا عليه أبواب المساءلة، خاصة مع اهتزاز هرم السلطة حينها بسبب وضع الرئيس الراحل آنذاك، خاصة مع شرائه لمصنع لإنتاج العصائر “فيتا جي”، باسم شركة الاستثمارات الفندقية المملوكة للعائلة بقية 40 مليون دولار، بالموازاة مع حفل الزفاف الأسطوري لسليم ملزي، المقام في فندق الشيراتون العام 2015.

الحكم الذي لم يتجاوز عقوبة الخمس سنوات سجناً، شكل نهاية رمزية لواحد من رجالات مرحلة استحوذت على ما كان يعرف بـ”المحافظة رقم 49″، التي ظلت طويلاً محرمة على الجزائريين

أما بعض الإفادات فتقول إن الفندق المملوك للدولة، أغلق يومين كاملين من أجل التحضير للحفل الذي فيه كبار المسؤولين في الدولة وزين بالمئات من الخرفان والأطعمة الفاخرة والمشروبات، وتحت نشوة الفرح وجنون العظمة أخرج مسدسه وأطلق النار في الهواء غير مبال بالعواقب، وهو ما كلفه استدعاء من الدرك الوطني وسحب سلاحه، وبداية التحقيق لتبدأ معه سقوط أحجار الدومينو.

لكن ملزي في كلمته الأخيرة خلال المحاكمة قبل صدور الحكم، خاطب القاضي بالقول “سيدي الرئيس لم أبدد الأموال، ولم أخالف القانون ولم أبرم صفقات مشبوهة. قضيت 53 سنة في خدمة الوطن. لكنهم أرادوا تحطيم اسم ملزي. أملك 113 مليون دينار جزائري، قيمة المبلغ المتواجد في حسابي، وأنا من منع أولادي من الدخول إلى المؤسسات التي كنت أسيرها كتابيا، تعلمت التسيير بالوثائق على يد أحد كبار القضاة ألف رحمة الله عليه، الذي نصحني بتوثيق كل العمليات والأمور الخاصة بالتسيير”.

وأضاف قائلا “لقد تم اختطافي من مصالح الأمن دون سابق إنذار، وحين حاولت الاستفسار، لم أتلق الجواب من أي أحد، لأجد نفسي بتاريخ السابع من مايو داخل السجن، وبعدها أجد نفسي مع عائلتي التي تم إقحامها أمام قاضي التحقيق نخضع للاستجواب طيلة يوم ونصف”.

لكن مدير عام إقامة الدولة الماكث في السجن منذ العام 2019، كوّن إمبراطورية ضخمة من الأموال والممتلكات والعقارات، بحسب تقارير محلية تستند إلى وثائق الأمن والقضاء تحدثت عن امتلاك عائلة ملزي لـ150 مركبة و8 شركات و6 محلات و8 فيلات و3 شقق بأفخم أحياء العاصمة، فضلا عن عقارات صناعية وزراعية بآلاف الهكتارات في العاصمة ومحافظتي الجلفة والبيض.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: