انفعال الدبلوماسية الجزائرية انعكاس لقلق داخلي وعزلة خارجية

حنان الفاتحي

أثارت ردة الفعل الجزائرية الحادة على قرار فرنسا الذي يقضي بالتشدد في منح التأشيرات لمواطني ثلاث دول مغاربية تساؤلات عن التحول اللافت في الدبلوماسية الجزائرية من الهدوء والتوازن التاريخيّيْن إلى حالة من التوتر و”العصبية” التي ظهرت على سطح التطورات الأخيرة في الساحة الإقليمية، خاصة إثر استلام الرئيس عبدالمجيد تبون السلطة.

وعلى عكس المغرب الذي اكتفى ببيان وصف فيه قرار فرنسا بغير المبرر، وصل الموقف الجزائري إلى درجة استدعاء سفير فرنسا لإبلاغه احتجاجا رسميا على قرار الحكومة الفرنسية القاضي بخفض التأشيرات إلى درجة النصف لكل من المواطنين الجزائريين والمغاربة، والثلث بالنسبة إلى التونسيين.

ويبدو أن قضية التأشيرات شكلت استفزازا كبيرا للحكومة الجزائرية، بعدما تمكنت من إخراجها من تحفظها لاسيما تجاه الطرف الفرنسي، ليتكرس بذلك حجم الأزمة الدبلوماسية المتفاقمة بين البلدين منذ الأشهر الأخيرة، ووجدت في القضية المذكورة منفذا للخروج إلى السطح.

وسجلت الدبلوماسية الجزائرية تحولا لافتا في الآونة الأخيرة، التبست معه الحدود بين الصرامة والانفعال كخارطة طريق في مخطط استعادة دورها ونشاطها في المنطقة. ومن غير المستبعد أن تكون الخطة التي رسمتها السلطة مؤخرا -لمراجعة عمل وتركيبة النشاط الدبلوماسي- قد قطعت مع زمن الهدوء والاتزان الذي اتسمت به الدبلوماسية الجزائرية طيلة العقود الماضية.

تصنيف الجزائرِ حركتَيْ ماك ورشاد تنظيمين إرهابيّيْن لم يلق أي صدى في باريس

وبين الصرامة في الدفاع عن مصالح البلاد والتسويق لمواقفها الإقليمية والدولية من جهة، والانفعال في معالجة المستجدات من جهة ثانية، تبرز حالة من القلق تترجم الوضع في هرم السلطة، في ظل رغبة السلطة في إرساء مقاربة سريعة تعالج الوضع الداخلي وتصنفه بين تخندق مع النظام أو الانخراط في أنشطة وأجندات معادية وإرهابية.

ويقول متابعون للشأن الجزائري إن “العصبية” التي تسيطر على القرار الجزائري تعود في جانب منها إلى أزمة داخلية يعيشها النظام الجزائري بسبب صراع الأجنحة، وتوسع دائرة الاحتجاجات والرفض للمنظومة المستمرة منذ عقود في الحكم، والتي انتهت بالجزائر إلى أزمة اقتصادية حادة بسبب الاعتماد فقط على عائدات النفط وعدم التهيؤ لما بعده.

ولاحظ المراقبون أن جزائر – تبون باتت تشعر بعزلة خارجية خاصة بعد خسارة ورقة البوليساريو ونجاح المغرب في تحقيق اختراق نوعي على هذا المستوى من خلال الحصول على اعتراف أميركي صريح بمغربية الصحراء، فضلا عن نجاحه في محاصرة البوليساريو في معاقل النفوذ الجزائرية التقليدية في أفريقيا.

كما فشلت الجزائر في بناء حوار هادئ مع فرنسا بشأن عدة مسائل، سواء ما تعلق منها بالخلافات التاريخية أو بقضية النفوذ الفرنسي الإقليمي خاصة في مالي، وهو ما يفسر حدة الموقف الجزائري من قضية التأشيرات.

وجاء موقف الحكومة الفرنسية من مسألة التأشيرات ليخرج الاحتقان بين البلدين إلى العلن، ويكشف مدى الغضب الجزائري من تعاطي باريس مع المهاجرين غير الشرعيين، دون مراعاة الطلب الرسمي لتسليم النظام الجزائري الرؤوس الكبيرة التي باتت مصدر صداع حقيقي لاستقرار الوضع الداخلي.

ولم يتم الاكتفاء بتصريحات أو بيانات مناسبة تكافئ مقام الحدث، كما كان الشأن في تونس والمغرب، وتم استدعاء السفير الفرنسي إلى مقر وزارة الخارجية لتبليغه احتجاجا رسميا على قرار خفض التأشيرات المخصصة للجزائريين إلى النصف.

وذكر بيان الخارجية أن “السفير فرنسوا غوييت أبلغ احتجاجا رسميا من الحكومة الجزائرية على خلفية قرار أحادي الجانب من الحكومة الفرنسية يمس بنوعية وسلاسة تنقل الرعايا الجزائريين باتجاه فرنسا”.

Thumbnail

واعتبرت الوزارة أن “هذا القرار الذي جاء دون تشاور مسبق مع الجانب الجزائري تضمن سلوكا غير مقبول من خلال الضجة الإعلامية التي صاحبته والتي أثارت خلطا وغموضا بخصوص دوافعه ومجال تطبيقه”. ولفتت إلى أن “الجزائر تستنكر هذا العمل المؤسف الذي يعرض للهشاشة والارتياب مجالا حساسا من مجالات التعاون بين البلدين”.

وتعتبر الجزائر أن ترحيل المهاجرين غير الشرعيين لا يتم إلا عبر تشاور وتنسيق مسبقين بين سلطات البلدين، وأن إصدار التصريح القنصلي الذي تطالب به فرنسا لن يكون إلا بعد تحديد هوية المعنيين. وتبرر الجزائر ذلك بمخاوفها من إمكانية تسلل عناصر إرهابية أو خطيرة إلى ترابها عبر عملية الترحيل.

غير أن متابعين للعلاقات الجزائرية الفرنسية يرجعون سبب التوتر الدبلوماسي المتصاعد إلى عدم تفاعل فرنسا مع أجندة السلطات الجزائرية على الصعيد الداخلي، فالتصنيف الذي أعدته لحركتي ماك ورشاد كتنظيمين إرهابيين لم يلق أي صدى في باريس، لاسيما وأنها تدرك أن التصنيف لن يكون له أي مفعول إذا لم تتفاعل معه عواصم إقليمية والمجموعة الدولية.

وتعتبر باريس القاعدة الخلفية لحركة استقلال منطقة القبائل، وملتقى خلاياها المنتشرة في بعض العواصم الغربية. ولم تقدم السلطات الفرنسية أي خدمة في هذا الشأن لنظيرتها الجزائرية تنفيذا لقرار تصنيف الحركة تنظيما إرهابيّا، حيث لا يزال زعيم ماك فرحات مهني ينشط بشكل عادي، ولم يتم القيام بأي إجراء تحفظي عليه.

وبدرجة أقل بقيت بعض العناصر المحسوبة على حركة رشاد تحظى بكامل حريتها، كما هو الشأن بالنسبة إلى القيادي يحيى مخيوبة، وهو ما قد يكون أزعج الطرف الجزائري وأخرجه عن تحفظه في مسألة التقليص من عدد التأشيرات الممنوحة لمواطنيه.

وكان وفد جزائري قد سافر إلى باريس منتصف سبتمبر الماضي من أجل استعادة عدد من المطلوبين، وهم ناشطون سياسيون معارضون، غير أن الطلب لم يجد التفاعل المنتظر من طرف الفرنسيين.

ودخلت العلاقات الجزائرية – الفرنسية في نفق أزمة صامتة منذ عدة أشهر، تجسدت في فسخ عقود بعض الشركات الفرنسية العاملة في الجزائر والاستغناء عن بعض عروض التزويد بالقمح اللين والصلب، فضلا عن إلغاء زيارة رئيس الوزراء الفرنسي، والاعتراف الرسمي في باريس بـ”الحركى”.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: