خلق عدم الثقة في الخطاب السياسي لدى العائلات الجزائرية نوعا من الخيبة والإحباط، فاقمتهما الأزمة الاقتصادية، ما دفعها إلى التفكير في الهجرة السرية للظفر بمستقبل أفضل. وينطوي توسع الهجرة السرية لعائلات بكاملها على العديد من الدلالات والرسائل، لعل أهمها أن المجتمع بات في حالة متقدمة من اليأس وفقدان الأمل.
ألقت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بظلالها على الأسرة الجزائرية، فبعد أن كانت تتابع أخبار الهجرة السرية للاطمئنان على وصول أبنائها إلى الضفة الأخرى، باتت الآن هي التي تمتطي قوارب الموت وخوض المغامرات، في تحول مفاجئ ومحزن ينطوي على تفاقم مأساة تترجم حجم الخيبة وفقدان الأمل في بلد صار الكثير يأمل في مغادرته إلى الأبد.
تداولت شبكات التواصل الاجتماعي بحر الأسبوع الماضي صورا وتسجيلات لقوافل “حراقة” جزائريين شقوا الطريق إلى السواحل الإسبانية، وكانت من بينهم عائلة تنحدر من ضاحية باب الوادي بالعاصمة، وتتكون من والدين شابين وبنتين، وقد تمكنت من الوصول إلى السواحل الإسبانية.
قوارب تقليدية
العائلة المذكورة ليست الوحيدة التي اختارت الهجرة السرية عبر القوارب التقليدية، فقد سبقتها إلى ذلك عائلة أخرى من مدينة وهران، وهو ما يمثل تحولا كبيرا في التركيبة النفسية والسوسيولوجية للمجتمع، فما كان يوصف بـ”التهور” و”المغامرة” لدى الشباب، بات موجة من الخيبة والإحباط تزحف على النفوس والأذهان شيئا فشيئا، وأن الثقة المهتزة في المستقبل توسعت لتشمل عائلات بأكملها، باتت تختار المغامرة في عباب البحر بدل البقاء في بلادها.
وإلى سنوات قليلة فقط، كانت العائلات والأمهات تحديدا تضبط توقيتها ومشاعرها على أخبار وصول أبنائها إلى سواحل إسبانيا أو إيطاليا أو الخروج من تركيا واليونان إلى الأراضي الأوروبية، وكم كانت المشاهد محزنة ومروعة لأمهات تسمرن لأيام على سواحل العاصمة، بعد توصلهن بأخبار عن انقلاب قوارب كانت تقل أبناءهن إلى إسبانيا، على أمل أن تلفظ الأمواج جثث هؤلاء ويظفرن بدفنها.
رغبة عائلات بكاملها في هجرة البلاد ولو بطريقة سرية تنطوي على العديد من الدلالات والرسائل أولها حالة اليأس المتقدمة
توسع الظاهرة لعائلات بكاملها تريد هجرة البلاد ولو بطريقة سرية، ينطوي على العديد من الدلالات والرسائل، أولها أن المجتمع بات في حالة متقدمة من اليأس وفقدان الأمل، وكل الخطابات لا تستطيع إقناعه في ظل الثقة المفقودة بين المجتمع والمؤسسات الرسمية والأهلية التي أوجدت لخدمة الأفراد وتحسين ظروفهم المعيشية.
وأخذت الظاهرة أبعادا مقلقة خلال الأسابيع الأخيرة، بعدما صارت الجزائر الممون الرئيس لإسبانيا بالمهاجرين السريين، حيث سجلت تقارير إعلامية في مدريد وصول نحو 1500 مهاجر غير نظامي جزائري في غضون الأسبوعين الأخيرين، ومن بينهم عائلات، بينما تحدثت تقارير أخرى عن وجود 50 آخرين بين غريق ومفقود بعد انقلاب قواربهم ومن بينهم طفل ذو أربع سنوات، وهو ما يوحي إلى أنه كان رفقة والديه.
وإذا كانت أضواء العواصم الغربية والنمط المعيشي هناك هما مصدر الإغراء الأول للشباب الجزائري في وقت سابق، فإن دخول الفقر والإحباط وفقدان الأمل دمر كل الحظوظ في تراجع الظاهرة، ولو أن ذروة الحراك الشعبي هي الوحيدة التي استطاعت تقليص أعداد “الحراقة” إلى مستويات قياسية بحسب تقارير رسمية لمصالح الأمن وخفر السواحل خلال العام 2019.
وصارت الإكراهات الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية التي تتعرض لها العائلة الجزائرية في السنوات الأخيرة أرضية خصبة لإنتاج مشاعر اليأس والإحباط، خاصة مع تراجع الأمل في تحسن أوضاع البلاد، بعد هدر فرصة النهوض الشامل التي ضيعها القادة السياسيون، وخلو الخطاب الرسمي من خارطة طريق تبعث على الاطمئنان.
العائلة الجزائرية باتت تئن تحت ضغوط تقطع الأنفاس، فما أن تخرج من نفق حتى تدخل في آخر ولا أمل في الوصول إلى بر الأمان، فخلال سنوات قليلة ضيعت شروط الحياة الكريمة، ولم تعد قادرة حتى على توفير المتطلبات الأساسية لأن الغلاء والندرة وتدهور الخدمات قصمت ظهرها ودفعت الكثير للتفكير في الهروب إلى الضفة الأخرى على أمل حياة أفضل.
معاناة اجتماعية
بقدر ما كان عرض أحد البنوك التجارية (بنك التنمية المحلية) لرهن الذهب والمصوغات للحصول على أموال لتغطية نفقات الدخول المدرسي، ممارسة شرعية غير أنه حمل معاناة اجتماعية ونوعا من التحطيم للقدرات المعنوية والذهنية، لأن البنك ما كان ليطلق عرضه لولا توصله بمعطيات حقيقية حول حالة الإفلاس أو الفقر التي وصلت إليها العائلة الجزائرية وعجزها عن توفير دخول مدرسي محترم لأبنائها.
ويكون اعتراف الحكومة برصد ثلاثة ملايين مساعدة للأطفال المعوزين لمساعدتهم على الالتحاق بمقاعدهم الدراسية مؤشرا على توسع دائرة الفقر، كما أن توظيف مساعدة 40 دولارا أميركيا للترويج لاجتماعية الدولة، يعكس تراجع كرامة الفرد والأسرة الجزائرية أمام زحف الفقر وتراجع القدرة الشرائية.
وكما كانت “الحرقة” ملاذا لناشطين سياسيين اضطروا للفرار تحت قمع السلطة، فإن الظروف الاجتماعية والاقتصادية تبقى الورقة الأكبر في ظاهرة الهجرة السرية التي أخذت أبعادا مأساوية خلال الأشهر الأخيرة، لاسيما بعد التحاق عائلات وأطفال ومسنين بقوافل المهاجرين.
يبدو أن الهوة مازالت عميقة بين الحقيقة الميدانية وبين الخطاب الرسمي في البلاد، وهو ما يساهم في ردم جسور الثقة
ورغم أن الهجرة غير النظامية تتطلب تكاليف باهظة لأن الرحلة من الجزائر إلى سواحل إسبانيا تترواح بين 3 و6 آلاف دولار، وهو مبلغ يكفي لتوفير مصدر دخل لصاحبه لو أراد الاستقرار في وطنه، فإن أزمة الإحباط النفسي وفقدان الأمل المتراكم خاصة مع طغيان ممارسات الإقصاء والتهميش والفوارق الطبقية باتت تتعمم شيئا فشيئا على الفئات المسحوقة من شباب وشابات وأسر بكاملها.
وتذكر بيانات يتم تداولها على نطاق واسع أن مناطق الهجرة على السواحل باتت أكثر نشاطا من المطارات الدولية، فقد شهدت إقلاع أكثر من 60 ألف مهاجر غير نظامي على متن القوارب، بينما كان المغادرون عبر الطائرات أقل من عشرة آلاف شخص، وهو ما يعكس حالة من النزوح الجماعي غير المسبوق، مازالت المؤسسات الرسمية في البلاد تتحاشى تناولها، ولا تذكرها إلا في حالات إحباط محاولات الهجرة.
ويبدو أن الهوة مازالت عميقة بين الحقيقة الميدانية وبين الخطاب الرسمي في البلاد، وهو ما يساهم في ردم جسور الثقة، فحديث عن “إبرام اتفاقيات بين الجزائر وحكومات أوروبية لتنظيم رحلات لفائدة الشباب الجزائرية من أجل معاينة الظروف المعيشية الصعبة في أوروبا” هو استغفال للعقول واستفزاز للمشاعر لأن الفوارق معكوسة، وما التحاق أطفال ومسنين وأسر بقوافل الحرقة إلا دليل على أن المقاربة الرسمية مازالت بعيدة عن واقع المجتمع الجزائري.