لم يشعر رموز العسكر بأي حرج من تكرار مساعيهم لإقناع الرجل الذي كان في منفاه الاختياري بين سويسرا ودول خليجية بالعودة، لأنهم كانوا يدركون أنه رجل النظام القادر على تخليصهم من وطأة العشرية الدموية، وإنقاذ البلاد من أزمة أتت على الأخضر واليابس، بسبب الحرب الأهلية بين الإسلاميين المسلحين وبين مؤسسات الجيش والأمن، وكما جاءها في 1999 وهي في وضع سيء، غادرها وغادر عالم الأحياء وهي في وضع أسوأ، فكان بعد عقدين من الحكم نموذجا حيا لنظام سياسي جزائري يصر على الجمود وعلى هدر الفرص.
من القصر إلى القبر
سارت الأقدار عكس ما كان يتمناه ويعمل عليه سابع رؤساء الجزائر المستقلة عبدالعزيز بوتفليقة، الذي كان يتمنى أن ينتهي رئيسا للبلاد، ولم يكن في نرجسيته إلا قاعدة “من القصر إلى القبر”، غير أن دهاءه وحنكته غاب عنهما رصد نبض الشارع وتجاذبات المحيط، بعدما اعتقد أنه يحكم الجزائر باسم الرئاسة والجيش والشارع والبرلمان والإعلام ورجال المال والأعمال، وأنه الكل في الكل.
وكانت ستة أسابيع من مسيرات شعبية أسبوعية كفيلة بأن تطيح به من قصر المرادية، في ظروف يكتنفها الغموض، فلا يعرف إن كانت تلك الاستقالة استجابة لمطالب الشارع، أم انقلابا أبيض نفذه عليه أقرب وأوثق رجل نصبه هو بنفسه على رأس الجيش، وهو الجنرال الراحل أيضا أحمد قايد صالح.
رحل الرجل بعد سنوات من العزلة والوحدة في قصر رئاسي بضاحية زرالدة بالعاصمة، وسط ارتباك السلطة حول التعاطي مع وفاة سابع رؤساء البلاد، فهي على رغبتها في الوفاء لعرابها ولتقاليدها السياسية والبروتوكولية، واقعة تحت ضغط غضب شعبي متفاقم، سببه الأول والأخير هو تركة عقدين من حكم الرئيس الراحل، ولا يبدو أنها كانت مستعدة للمجازفة بشعبيتها المنهارة أصلا.
جنازة رسمية بلا شعب ولا إعلام
بوتفليقة الذي وافته المنية عن عمر 84 عاما، بعد سنوات من المعاناة مع المرض، بدأ في 2005 بإصابة في الجهاز الهضمي، وتفاقم في 2013 بعد أن ألمت به جلطة دماغية، هو نموذج نادر لرموز السلطة في الجزائر المستقلة، فهو أصغر وزير للشباب والرياضة في حكومة الاستقلال، وكان بعمر 25 عاما، وأصغر وزير خارجية بـ27 عاما، وقضى 38 عاما من حياته بين وزير ورئيس.
عاصر الكثير من الأجيال والشخصيات في الجزائر والخارج، وهو واحد من رموز النظام السياسي في الجزائر القائم على الصمت وعلى “ثقافة الدولة”، فرحل ورحلت معه الكثير من أسرار الداخل والخارج بداية من ثورة التحرير، إلى غاية تنحيه مطلع شهر أبريل 2019، فعلاوة على أنه أحد صناع وفاعلي نظام بلاده، بحوزته الكثير من الأسرار التي تتعلق بنشاطه في الخارج، خاصة وأن شغله لمنصب وزير الخارجية تزامن مع مراحل هامة وحساسة في السياسة الدولية، وكان على اطلاع بملفات إقليمية وقارية ودولية.
ورغم قضائه لسنوات طويلة في المنفى الاختياري، ومعاصرته لسقوط الأيديولوجيا الأحادية في العالم، إلا أن الرجل ظل وفيا لتقاليد نظام بلاده الشمولي، وجاء في العام 1999 وفي حلقه غصة ونقمة من خصومه الإصلاحيين الذين أسسوا لنظام التعددية والديمقراطية في البلاد بعد وفاة وليّ نعمته الرئيس السابق هواري بومدين نهاية العام 1978، ولم يكن يروق له لا تعدد الأحزاب ولا الإعلام ولا النقابات ولا الجمعيات، لولا أن التقاليد السياسية باتت تقتضي ذلك، فالرجل كان يرى أنه هو الجزائر لا رئيسها فقط.
بوتفليقة نموذج نادر لرموز السلطة في الجزائر المستقلة، فهو أصغر وزير للشباب والرياضة في حكومة الاستقلال، وكان حينها بعمر 25 عاما، وأصغر وزير خارجية بـ27 عاما، وقضى 38 عاما من حياته بين وزير ورئيس
رحيل بوتفليقة حمل الكثير من العبر والرسائل، فالرجل الذي قضى عقدين في قصر المرادية وكان يريد الاستمرار، وشيد مسجدا ليكون ضريحه بداخله يخلده للأبد، والذي كانت تحشد له الآلاف والملايين في خرجاته وانتخاباته، انتهى إلى جنازة كانت رسمية، لكنها نظمت باحتشام خشية ردة فعل الشارع الذي ثار ضده، فلا نظرة أخيرة ولا خط سير في الشوارع الكبرى للعاصمة، ولا حداد ولا مشيعين رافقوه إلى مثواه الأخير، ولا حتى تغطية إعلامية واسعة، وتساءل الناس أين الآلاف التي غصت بها القاعة البيضوية في 2019 لمطالبته بالترشح لولاية رئاسية خامسة؟
العارفون بالشأن الجزائري يقولون إن تعازي الرؤساء والملوك والقادة هي التي ضغطت على السلطة لتنظيم الجنازة التي تمت بالشكل المذكور، وأن السلطة لم تكن مستعدة لذلك، رغم أن الأمر يتعلق برئيس دولة كان يتوجب احترام المنصب قبل الشخص، لكن الخلاف حول المراسم بدا جليا على الإخراج النهائي للحدث، وحتى الحزب الذي كان يتشرف بقيادته ”جبهة التحرير الوطني“ لم يصدر تعزية أو رسالة نعي.
ويبدو أن السلطة التي نظمت مواكب جنائزية ضخمة لرؤساء سابقين كالشاذلي بن جديد وأحمد بن بلة، وأعلنت الحداد في البلاد، كانت تريد جنازة معزولة شعبيا وإعلاميا للرئيس بوتفليقة، واكتفت بحضور الإعلام الرسمي، بينما همش الإعلام الخاص والأجنبي، من أجل حصر الأضواء في تغطية موجهة تختصر الحدث وتغلق النقاش حول مرحلة حساسة من تاريخ الجزائر بما فيها وما عليها.
الوفاء لمدرسة الصمت
رحل بوتفليقة، الذي تقلد رئاسة الدولة وهي في حمام دم، فلملم الجراح وأوقف النزيف بمشروع سياسي أنهى العشرية الدموية، لكنه لم يفكك فصول الأزمة في الجزائر، وغادرها وهو يؤدي مدلول “رأس العصابة” بلغة “الكلمات المتقاطعة”، فتحت ضغط الشارع وتسارع وتيرة التجاذبات، تنحى عن السلطة وسجن مقربوه وأذرعه السياسية والمالية والعسكرية والأمنية، لكنه نجا للأبد من محاكمة رمزية من طرف القضاء، رغم إصرار المساجين على أنه المسؤول الأول عن المرحلة وأنهم كانوا ينفذون أوامره.
ويصف رئيس الحكومة السابق مولود حمروش بلاده بأنها ”بلاد الفرص الضائعة”، في إشارة إلى تضييع الجزائر لفرص الإصلاح والنهوض والإصرار على الجمود، وهو ما تكرس بشكل جلي خلال حقبة بوتفليقة، فالتمسك بالسلطة أدخل البلاد في مأزق غير مسبوق، والتفرد بالقرار دمر المؤسسات وقيم الديمقراطية والتداول على السلطة، وسوء التسيير بدد 1200 مليار دولار من مداخيل البلاد، لتنتهي بوضع مأساوي اجتماعيا واقتصاديا.
سلطة الشخص بدل المؤسسات
الوزير والدبلوماسي السابق عبدالعزيز رحابي قال في تدوينة له إن ”بوتفليقة هو من أوائل نشطاء النظام السياسي الجزائري الذي اتسم بالاستبداد والفساد والمقاومة الممنهجة والمنتظمة لأي شكل من أشكال التغيير والحداثة، لم يكن لدى الرئيس الراحل أي طموح لأجل جزائر قوية ومزدهرة، لأنه كان بطبيعته رجل سلطة، وظف كل طاقته في تعزيز سلطاته على حساب المؤسسات، في وقت كانت فيه البلاد في أمَسّ الحاجة إلى رجال دولة قادرين على إدخالها في محفل الأمم العظيمة”.
وأضاف رحابي “للجزائر من المزايا ما يمكنها من التصالح مع مصيرها ذي العظمة التاريخية، لكنها لا تستطيع تحقيق ذلك إلا من خلال تبني المعايير اللازمة للحكم الراشد واحترام حقوق الإنسان، من الصعب اعتبار أن هذه الشروط كانت جزءا من أولويات الرئيس بوتفليقة، تغمده الله برحمته”.
الجزائريون الذين انقسموا حول التعامل مع وفاة الرئيس بوتفليقة، بين متعامل معها كمبدأ ديني وأخلاقي وإنساني، وبين من لم يستطع تجاوز آثار وتركة الرجل على البلاد والعباد، لم يهمهم الرحيل بقدر ما أحيا فيهم الحسرة على المآل الذي آلت إليه بلادهم، فالرجل وافته المنية وانتهى، لكن الجزائر تغرق في أزمة لا سابق لها، ففي عهده تعمم الفساد والجهوية وتبدد المال العام وتحللت المؤسسات والدستور، وتكرست الشمولية وشخصنة الحكم، وفقدت الجزائر بريقها ونفوذها في محيطها وإقليمها.
لكنّ آخرين يذهبون إلى ضرورة إنصاف الرجل، فهو جزء من منظومة متكاملة موروثة عن زمن بائد ولا يتحمل مسؤولية الوضع القائم لوحده، فهو الذي فكك سطوة الجيش على القرار السياسي وأزاح كبار الجنرالات الفاعلين، وساهم في عودة الأمن والاستقرار إلى ربوع البلاد، وهو صاحب فكرة صندوق فائض النقد الأجنبي، الذي أنقذ البلاد منذ العام 2014 إلى غاية الآن من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، كما كرس الطابع الاجتماعي للدولة رغم ما رافق ذلك من تبديد للتحويلات الاجتماعية للدولة، وفوق ذلك فإن نظام بوتفليقة، الذي ثار الجزائريون عليه في 2019، هو أرأف وأرحم وأرْفَه من قمع وتضييق وفقر السلطة التي خلفته.
هل عاد لينتقم؟
الرئيس الذي اختصر الجزائر في شخصه خلال بدايات حكمه للبلاد، كانت النرجسية والكبرياء عقدته الأبدية، فعلى مدار عشرين عاما من الحكم، لم ينزل إلى برلمان بلاده للمرافعة
على مخططه أو الإجابة على أسئلة نواب الشعب، ولم يحاور ولا صحافيا جزائريا واحدا، لأنه كان يرى نفسه فوق الجميع، منتخبين وإعلاما وأحزابا ونقابات وجمعيات، ولم يكن يروقه إلا أن يراهم يهللون ويصفقون له في الصالات وعلى الأرصفة.
بوتفليقة، الليبرالي في ثوب الاشتراكي، لم يكن يقدر على إخفاء انبهاره بالحضارة الغربية وبفرنسا تحديدا، فقد كانت باريس محطته في الذهاب أو الإياب من أي جولة دبلوماسية لأي وجهة كانت، لدرجة أن الرئيس الراحل هواري بومدين نبهه بالقول ”أنت وزير خارجية الجزائر أم فرنسا؟”، واستمر على ذلك النحو، لكنه لم ينجز سندا يدعمه لخلافة بومدين في 1978، حين تدخل الجيش واستقدم الشاذلي بن جديد، من الناحية العسكرية الثانية بوهران إلى قصر المرادية كرئيس للبلاد.
فعاش بعد ذلك طريدا لدى زاوية الشيخ بلكبير، أحد رموز الصوفية في جنوب البلاد، أو في الخارج، وهو مطارد بتهمة الاستحواذ على أرصدة وزارة الخارجية، ولذلك ربما يكون شعور الثأر من خصومه قد تفاقم لديه على مر السنين، ولأنه لم يقتنع بعرض الجنرالات في 1994 لتقلد رئاسة الدولة، فقد توارى عن الأنظار، حتى حصل على ضمانات دولية وتنازلات أكثر من قيادات الجيش، وذكر حينها بعض الذين يعرفونه كرئيس مجلس الأمة الراحل بشير بومعزة، بأنه “جاء لينتقم”.