رغم وعود الحكومة المتكررة بضبط أسعار اللحوم بنوعيها الحمراء والبيضاء في السوق الجزائرية، إلا أن وعودها تسقط على الدوام في الماء، خاصة ما تعلق بالحمراء منها رغم امتلاك الجزائر ثروة حيوانية تفوق 25 مليون رأس من المواشي، ليستمرّ بذلك مسلسل تقاذف الاتهامات بين مربي الدواجن والموالين من جهة والتجار من جهة ثانية والحكومة من جهة ثالثة.
وبين اتهامات الأطراف الثلاثة، يبقى المواطن والعامل البسيط هو الضحيّة الأولى، بالنظر إلى فشل مختلف الحركات الاحتجاجات والبيانات التي أصدرتها النقابات لتحسين القدرة الشرائية، كما لم تؤت حملات مقاطعة اللحوم ثمارها المنتظرة.
ظلّت اللحوم البيضاء خاصة الدجاج منه إلى وقت قريب المنتج الحيواني الوحيد من اللحوم الذي يستطيع العامل الجزائري من الطبقة المتوسطة اقتناءه، حتى ولو كان بشكلٍ غير يومي، كون أسعاره كانت تتراوح من 200 إلى 350 دينار في الغالب، عندما تكون الأسعار مستقرّة، غير أن هذه المرة لم تعرف أسعار الدجاج ارتفاعًا بسيطًا أو متوسطًا يكون على الأكثر بـ 100 دينار، إنما وصل لهيبها حتى 200 دينار، ليصل ثمن الكيلوغرام الواحد منها إلى 500 دينار.
وشمل هذا الارتفاع حتى الأسواق الموازية، فسعر الدجاج الحي تعدّى 370 دينار للكيلوغرام الواحد، وهي زيادة في الثمن لم تشهدها هذه المادة واسعة الاستهلاك منذ مدة.
يعتبر الدجاج من المواد وسعة الاستهلاك في الجزائر، إذ يقترن الاحتفال بعدة شعائر دينية و تقليدية باستهلاكه، إضافة إلى الطلب المرتفع عليه في المطاعم، كونه يشكّل بديلًا عن اللحوم الحمراء التي لا يقل ثمنها في أحسن الأحوال عن 1200 دينار، إضافة إلى أسعار الأسماك المرتفعة، وهو ما جعل الدجاج المنتج الحيواني الوحيد إضافة للبيض والحليب الذي كان في متناول الموطنين البسطاء.
ورغم إطلاق حملة #خليه_يربي _الريش من قبل جمعيات حماية المستهلك ومن قبل نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن ذلك لم يثن التجار في مواصلة بيع الدجاج بأسعار مرتفعة.
هنا، يوضّح الخبير الاقتصادي الدكتور أنور سكيو أن ارتفاع أسعار اللحوم بنوعيها في الآونة الأخيرة بلغت نسبة 100% من أسعارها الطبيعية، (لحم الدجاج من 250 دج إلى 500دج)، (لحم الخروف من 1200دج إلى 2000دج)”، مضيفا أنه ” وللأسف قد نصادف اليوم بعض الفوضى أيضا كدخول اللحوم الحمراء والبيضاء غير المراقبة صحيا للاستهلاك كرد فعل في ظل غياب الرقابة المحكمة، خاصة بعد تأثر بعض المداجن من تبعات الحرائق الفارطة التي أدت لنفوق آلاف الصيصان”.
لكن سكيو يرى أيضًا أن “ارتفاع أسعار اللحوم البيضاء والحمراء في الجزائر منذ مطلع العام الماضي، لا نستطيع فصلها عمّا يواجه السوق الدولية من تغيرات واضطرابات نتيجة مرحلة كورونا وما بعد، خاصة ما يتعلق بتكاليف الشحن وتوازنات العرض والطلب الدوليين لأعلاف تغذية الدواجن ومادتي الذرة والشعير أيضًا .
اتهامات متبادلة
يُرجع مربو الدواجن أسباب ارتفاع أسعار لحم الدجاج في الآونة الأخيرة إلى تكاليف الإنتاج؛ بدءًا بارتفاع سعر الصوص الذي قارب حتى 180 دينارًا في الآونة الأخيرة، يضاف إليه ارتفاع أسعار الأعلاف التي فاق القنطار منها 7ألاف دينار، دون نسيان الجفاف الذي ميز الجزائر هذا العام، والذي جعل المربين يلجؤون لشراء مياه الصهاريج، في حين كانوا يكتفون في السنوات الماضية بمياه الحنفيات.
من جهته، يرى رئيس الجمعية الجزائرية لمربي الدواجن مراد بلحسن أن السبب الرئيسي لارتفاع الأسعار هو عزوف صغار المربين عن تربية الدجاج اللاحم، الذي يشكل 70% من الإنتاج الوطني، بسبب ارتفاع أسعار الأعلاف وعدم استفادتهم من اتفاقية تزويدهم بالأعلاف بأسعار مناسبة، رغم الاتفاق الذي جرى بين وزارة الفلاحة وغرفة الفلاحة والمربين.
أما الموالون، فيرجعون الارتفاع الجنوني في أسعار اللحوم الحمراء إلى المضاربين من التجار الذين يستفيدون من هامش ربع عالي، جعل أسعار لحم العجول يرتفع هذه الأيام حتى 140 دينارًا، فيما وصلت أسعار لحم الأغنام حتى 170 دينارًا.
دون فعالية
تعلن الحكومة في كل مرة عبر وزارتي التجارة والفلاحة عن اتخاذ جملة من الإجراءات للحد من الارتفاع المستمر في أسعار اللحوم، لكن نجاعة هذه الإجراءات تبقى في الغالب غير ملموسة.
وفي نيسان أفريل الماضي قبل أيام من حلول شهر رمضان، أقرت الحكومة إعفاء الواردات من الذرة والشعير وأعلاف المواشي والدواجن، من رسم القيمة المضافة، بهدف ضبط أسعار اللحوم الحمراء والبيضاء.
وحسب الخبير الاقتصادي أنور سكيو، فإن عدم قدرة التدابير التي اتخذتها الحكومة في ضبط أسعار اللحوم متعلق بعوامل عدة، منها “الممارسات اللاأخلاقية واستغلال عارض الندرة وغياب التأطير التجاري الصارم (للجهات المعنية) والمؤطر لعملية إنتاج، تسويق واستغلال اللحوم المنتجة محليا بنوعيها”.
وأضاف سكيو قائلًا “سمعنا من قبل تصريحات لديوان تربية الأنعام والدواجن، بلسان مديره العام، حول برمجة حوالي 9000 هكتار لزراعة الذرة في بعض ولايات الوطن، وكذا مبادرة الجهات الوصية لإعفاء واردات الذرة والشعير وأعلاف المواشي والدواجن في عمليات الاستيراد الراهنة، وكذا وصل الأمر بوزارة التجارة لخيار الاستيراد المباشر للحوم، والذي لا يتجاوز كونه ظرف آني قبيل شهر رمضان الفارط”.
ويوضح دكتور الاقتصاد أن الملاحظ لكل ردود الفعل هاته وسياقها الزمني، وكذا واقع السوق قبيل، وأثناء وبعد تبني بعض هاته الخطوات وتأخر بعضها الآخر. بإمكانه حتمًا استشعار فجوة التأطير الزمني المناسب لعملية الاستيراد المعفية من رسم القيمة، وافتقارها لخيارات بديلة في ظروف الأزمة مثل ما نراه اليوم، مبينًا أن هذا يدل على وجود “مشكل في آليات تطبيق قرارات وخيارات الحكومة، وعدم قدرة بعض الدوائر المعنية من تفعيل هاته القرارات العليا كوزارة التجارة مثلًا، إضافة إلى نقص البرامج التنموية والحاضنة لهذه النشاطات الحيوانية، وغياب برامج التحفيز والاستفادة من الخبرة الأجنبية في مجالي تربية الدواجن والماشية.
ورغم امتلاك الجزائر لثروة حيوانية معتبرة سواءً بالنسبة للمواشي أو الدواجن، إلا أن تكرر هذه الأزمات الاستهلاكية ، وهو ما يرجعه أنور سكيو إلى عدم استغلال هذه الثروة بالطريقة المثلى، داعيًا الجهات الوصية إلى “عدم الاكتفاء بإخراج اللحوم المجمدة التي لن تدوم طويلًا، وتجنب الاعتماد على الحلول الآنية وسياسة الهروب للأمام التي تعتمدها الوزارة”.
ويعتقد أستاذ الاقتصاد أنه من بين الحلول التي قد تجنب الجزائر الوقوع في أزمة جديدة لارتفاع أسعار اللحوم، هي فتح المجال للاستيراد المنظم للأعلاف، وفق دفتر شروط مدروس بعيانة، والذي يتطلب أولًا مراجعة فعالية سياسة وزارة التجارة في السنتين الأخيرتين، بالنظر لما شهدته البلاد من ارتفاع جلي في أسعار المواد الاستهلاكية خاصّة الغذائية منها.