هل يدفع سيناريو أفغانستان و”فاغنر” فرنسا إلى مراجعة انسحابها من مالي

الاسود

تجد الحكومة الفرنسية نفسها أمام ضغوط داخلية وخارجية تربك خطط انتشارها العسكري في منطقة الساحل والصحراء، فبعد أن قررت تخفيف تواجدها في عدد من تلك الدول وفي مقدمتها مالي استرضاء للشارع مع قرب الانتخابات، تجد نفسها أمام تحدّ جديد وهو خسارة نفوذها في المنطقة لصالح روسيا.

تعكس تصريحات المسؤولين الفرنسيين المطمئنة لدول منطقة الساحل بداية تراجع فرنسا عن قرار الانسحاب من مالي، حيث تشير إلى أن القرار لا يتعلق بانسحاب تام وإنما إعادة انتشار للقوات الفرنسية.

يجد الفرنسيون أنفسهم في موقف حرج بمنطقة الساحل والصحراء، في ظل تحذيرات من أن يؤدي قرار انسحابهم من مالي إلى ذات ما حصل في كابول في الخامس عشر من أغسطس الماضي بعد بدء الأميركان الانسحاب من أفغانستان، حيث ستكون الهزيمة مدوية على جميع الأصعدة، وستخسر باريس كل أوراقها في مستعمراتها السابقة.

وتستشعر باريس بداية انفلات خيوط اللعبة من بين يديها، ففي الرابع عشر من سبتمبر الحالي أبدت السلطات الفرنسية قلقا صريحا من المناقشات بين باماكو وشركة فاغنر الروسية الخاصة، محذرة من أن انتشار هذه الجماعات شبه العسكرية في مالي قد يؤدي إلى انسحاب القوات الفرنسية، التي تقاتل الجماعات الجهادية هناك منذ ثماني سنوات.

العدد المتزايد للجنود الذين قتلوا في مالي أجبر حكومة ماكرون على إعادة التفكير في الانخراط العسكري في منطقة الساحل

وقال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، أمام لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية، “إن تورط شركة فاغنر الروسية الخاصة في مالي سيكون غير متوافق مع الحفاظ على قوة فرنسية، حيث لا يمكن التوفيق على الإطلاق بين وجودها وجودنا”.

لكن الانسحاب الفرنسي يعني فقدان الكثير من المصالح: المواد الحيوية الخام والدور الإستراتيجي والهيمنة الثقافية وبقايا الطموح الإمبراطوري، مع إعلان واضح عن فسح المجال أمام الجماعات الجهادية للسيطرة على مراكز الحكم والثروة، وأمام الروس للتوسع في دول الساحل والصحراء، فرنسا ستكون كذلك قد أسقطت آخر ما تبقى لها من مصداقية في مهب عواصف الصحراء الشاسعة، وستكون قد أعطت لأعدائها الكثر في القارة هدية مناسبة تتماشى واحتفالات بداية العام القادم.

قد يبدو الجانب الأخلاقي أحد أهم ما سيضع فرنسا في ورطة حقيقية، في حالة سحب قواتها، سينظر العالم إلى حركة طالبان في أفغانستان بأنها في منتهى الرقي الإنساني مقارنة بما ستقوم به الجماعات الإرهابية في دول الساحل والصحراء في تمبكتو، حيث سيحتاج المثقفون والفنانون والناشطون الحقوقيون والاجتماعيون وعدد كبير من النساء إلى المغادرة أو الموت برصاص المتطرفين.

وفي تقرير لصحيفة “لوموند” الفرنسية، قالت فاديماتا تاندينا توري، معلمة التاريخ والجغرافيا “السؤال هو ماذا سيحدث لمدينة تمبكتو بعد برخان؟”، مثل الكثيرين هنا، فهي لا تثق في الجيش المالي لحمايتها.

وأضافت “أراضينا مفتوحة، إنها معركة لا تستطيع مالي وحدها أن تقودها. لا يزال جيشنا بحاجة إلى الدعم. إذا لم ينجح الجيش في منعهم، فسوف يأتون ويفرضون الشريعة”. لا تزال فاديماتا تاندينا توري في حالة صدمة، كما في حلم سيئ، مقتنعة بأن الجنود الفرنسيين ومواردهم العسكرية هم الحصن الوحيد ضد الجهاديين الذين يسيطرون على المنطقة.

الانسحاب يضعف مصالح فرنسا

ويشارك في هذا القلق البخاري بن السيوطي، رئيس البعثة الثقافية في تمبكتو الذي دعا فرنسا إلى “مراجعة موقفها” لتعلم دروس الفشل الأفغاني. وقال “من المؤكد إذا غادرت برخان، أعتقد أن الباب سيصبح مفتوحا لكل الانتهاكات”. ويعتقد السيوطي أن الجهاديين سيستغلون الفراغ الذي خلّفه رحيل قوة برخان للعودة، مع عواقب وخيمة على السكان الذين سيعيشون مرة أخرى تحت نير الشريعة “الجهاديون الذين احتلوا المدينة هم سلفيون من أنصار الإسلام الراديكالي، وسكان تمبكتو معتدلون من الطائفة الصوفية  ولا يريدون تكرار ما حصل للمدينة العريقة في العام 2012”.

ليس بعيدا عن تمبكتو، تسيطر الجماعات المتشددة على مناطق عدة وتفرض قوانينها على السكان المحليين، فتحصل منهم على إتاوات باسم الزكاة، وتنفذ فيهم أحكام الشريعة، وتفرض على النساء ارتداء النقاب، وتمنع الغناء والموسيقى ومشاهدة التلفزيون.

وقررت جمعيات الشباب في تمبكتو التحرك، وخططت للتظاهر لمطالبة إيمانويل ماكرون بتأجيل الانسحاب في انتظار عودة النظام الدستوري في باماكو، حيث استولى المجلس العسكري على السلطة بعد انقلابين في أقل من عام. خالد عضو في المجتمع المدني في تمبكتو لا يخفي قلقه “لقد أعددت حقائبي بالفعل. إذا غادرت قوات برخان، سأغادر أيضا، لأن المدينة ستقع على الفور في أيدي الجهاديين”.

الانسحاب الفرنسي يفقدها الكثير من المصالح ويفسح المجال أمام الجماعات الجهادية للسيطرة على مراكز الحكم والثروة

وعملية برخان هي عملية جارية لمكافحة التمرد في منطقة الساحل الأفريقي، انطلقت في الأول من أغسطس 2014 وتتألف من 3000 إلى 4500 جندي فرنسي مع قوات من خمسة بلدان تمثل المستعمرات الفرنسية السابقة، التي تمتد في منطقة الساحل الأفريقي: بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر. هذه البلدان المشار إليها إجمالا باسم “جي 5 الساحل”.

ويعتبر تييري فيركولون وهو منسق مرصد أفريقيا الوسطى والجنوبية التابع للمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، أن مخاطر الإرهاب التي فشلت “المقاربة الثلاثية الأبعاد” (الدفاع والتنمية والدبلوماسية) في احتوائها، تنطوي على مخاطر كبيرة لفرنسا: تعاون الجيش الفرنسي مع الجيوش التي ترتكب جرائم حرب، رفض السكان المحليين للوجود العسكري الفرنسي وتفاقم ظاهرة الفرانكوفوبيا في القارة بالإضافة إلى خطر التلاعب بالجيش الفرنسي وجره لتصفية الحسابات بين الأعراق. كل هذه  الأشياء تذكر بأنه ومن أجل محاولة حماية نظام هابياريمانا في رواندا، وجدت فرنسا نفسها متورطة في الإبادة الجماعية الأخيرة في القرن العشرين.

ويتابع الخبير الفرنسي “إن عدم الانتصار في صراع غير متكافئ على المدى المتوسط ​​يزيد الغرق، والتورط وهو ما يعني الاضطرار إلى تبرير المزيد والمزيد من الخسائر البشرية أمام الرأي العام. فتماما كما في عام 2008، عندما أجبر كمين وادي أوزبين بأفغانستان الذي ذهب ضحيته عشرة جنود فرنسيين، حكومة نيكولا ساركوزي على التحكيم بين رغبتها في التقارب مع واشنطن وتأثير الخسائر على الرأي العام، أجبر العدد المتزايد للجنود الذين قتلوا في مالي حكومة إيمانويل ماكرون على إعادة التفكير في الانخراط العسكري في منطقة الساحل مع اقتراب للانتخابات المقبلة”.

لكن فرنسا تدرك جيدا أن أي انسحاب كامل من مالي والمنطقة سيؤدي إلى وضع أسوأ مما أدى إليه الانسحاب الأميركي من أفغانستان، كما أن دخول الروس على الخط لا يسمح بالتراجع إلى الوراء نهائيا لأن ذلك سيقطع طريق العودة في محيط تدرك باريس أن أغلبه يعود لها.

فرنسا تعيد ترتيب أوراقها

وتواجه فرنسا أيضا اتساع  الشعبوية في مجتمعات يعتمد فيها المتطرفون على تحميلها المسؤولية عن كل المشكلات، لاستعطاف الطبقات المطحونة الحالمة بتجاوز ظروفها من خلال الترويج لأطماع الحصول على نصيب من ثروة لا يزال المستعمر القديم ينهبها.

ويقول فيركولون “علينا أن ندرك دائما أن الإسلام السياسي يعتبر فرنسا عدوته الأولى في المنطقة. هناك قوى أخرى تعمل على نشر هذه المشاعر المعادية للفرنسيين ضمن حرب التجاذبات وصراع التوازنات على خارطة المستقبل”.

وقالت وزيرة الجيوش الفرنسية خلال زيارة إلى النيجر الأحد إنه “إذا أبرمت السلطات المالية عقدا مع شركة فاغنر، فسيكون ذلك مقلقا للغاية ومتناقضا، ولا يتفق مع كل ما قمنا به على مدى سنوات وكل ما نعتزم القيام به لدعم بلدان الساحل”، لكنها عادت لتقول “لن نغادر من منطقة الساحل. إننا نواصل الحرب ضد الإرهاب. نحن نحافظ على نظام عسكري في مكانه لمواصلة دعم شركائنا في منطقة الساحل، مع التكيف مع تطور التهديد. إن التحول الذي أمر به رئيس الجمهورية ليس بأي حال من الأحوال خروجا عن مالي، ولكنه إعادة تشكيل لقواتنا لجعلها أكثر فاعلية. أذكركم بأن الترتيب النهائي للقوات الفرنسية في منطقة الساحل سيستمر في الاعتماد على الالتزام الدائم المستمر للجنود الفرنسيين بالاشتراك مع شركائنا. يمكنني أن أخبركم بأن هذا سيمثل جهدا حقيقيا ومتسقا ومستمرا لجيوشنا”.

وتدرك فرنسا جيدا أنها تقف لوحدها حاليا بعد أن تخلى عنها شركاؤها الغربيون حيث لا أمل في دعم أميركي رغم الاختراق الروسي، الدول الأوروبية ذاتها تتجه إلى فك الارتباط، ولكن مشهد سيطرة طالبان على كابول يبدو أنه جعل الفرنسيين يعيدون النظر في موقفهم، ذلك المشهد لو تكرر في مالي أو غيرها سيطيح بكل النخبة السياسية الحاكمة في فرنسا، وسينهي أي ارتباط للفرنسيبن بالمنطقة، وسيفسح المجال واسعا للجماعات المتشددة لتسيطر على فضاءات واسعة بما يهدد الأمن والاستقرار الإقليميين وحتى الدوليين.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: