تحضرني واقعة كان بطلها سفير جزائري في عاصمة بأوروبا الشرقية، حدث أن انزعج من مقال أو مقالات صحافية نشرت في الجزائر حول وضع مستجد بالجالية الجزائرية هناك، ولم يجد مخرجا من المأزق إلا بالتوسط والتواصل مع صحافيين وناشرين لأجل طرح وجهة نظر السفارة، ولما سئل من طرف أحد الناشرين: لماذا لا تحرر ردا أو تعقيبا تقول فيه ما أردت وينتهي الموضوع؟ جاء رد السفير غريبا عجيبا “الوصاية (وزارة الخارجية) لا تسمح لنا بذلك”.
هذه الحادثة تختصر ولو جزئيا بعضا من أزمة الدبلوماسية الجزائرية خلال السنوات الأخيرة، فلما كانت في أوج تألقها، كان مدير مكتب وكالة الأنباء الرسمية الجزائرية في تونس على علم بماذا ومتى وكيف سيحدث التغيير في هرم السلطة التونسية (مجيء بن علي وتنحية بورقيبة)، ولما انهارت صار وزير الخارجية يلتقي رئيس مالي، وبعد أربعة أيام يقع الانقلاب في باماكو.
الدبلوماسية كغيرها من القطاعات الأخرى، تعيش على وقع خمول غير مسبوق، فانعكس على أدائها وعلى صورة البلاد في الخارج، وللرئيس عبدالمجيد تبون كل المبررات والذرائع من أجل إحداث ثورة وضخ دماء جديدة في الجهاز الذي تحول في بعض الأحيان إلى مجرد مصلحة إدارية تستنزف أموال الخزينة العمومية بلا مردودية ولا عائد.
لكن الذي يستوجب التوقف عنده مجددا أن السفينة الجديدة لا تركّب بالخشب القديم والمستعمل، فرغم أن الرئيس محق في مسألة التغيير العميق داخل الجهاز الدبلوماسي، وحتمية تفعيل دوره لمواكبة طموحات السلطة الجديدة لبناء ما تسميه بـ”الجزائر الجديدة”، فإن الاستعانة بالرموز المخضرمة هي التي تطرح أكثر من علامة استفهام، وإن كانت قضية الاستفادة من خبراتها مبررة، فإن العبرة بالجدوى والمردودية التي حققتها يوم كانت في مواقعها.
وقد يعود البعض إلى أن الاستعانة بصقور الدبلوماسية هي استغلال لخبرات تراكمت على مدار عقود ماضية، وأن الخلل ليس فيها بقدر ما هو في خطط العمل، لكن ذلك يحيل المتابع إلى عمق الأزمة، لأن الدبلوماسية هي تحرير الطاقات والتكامل بين جميع الفاعلين من القطاعات الأخرى، فلا يمكن لأي دبلوماسية أن تنجح إن لم تكن مستندة إلى استقرار داخلي وأداء مؤسساتي متكامل، حيث تصب جهود الأمن والبروباغندا واللوبيينغ والإعلام في وعاء السفير لتكون كلمته هي العليا في أي محفل.
لا زال الجميع يتذكر كيف تطاول مسؤول قطري في القاهرة على وزير الخارجية الجزائري الراحل مراد مدلسي، بسبب الموقف من موجة الربيع العربي آنذاك، وأصيب الشارع قبل مؤسسات الدولة بالغيظ والمرارة، حول أن تتساوى دولة بحجم محافظة من محافظات الجزائر، مع دولة اسمها الجزائر، وأن تنقلب الموازين وتصبح النملة تهدد الفيل، والسبب أن البناء في قطر كان مستقيما ومتكاملا بينما العكس في الجزائر.
التغيير أو الثورة التي يعتزم الرئيس تبون القيام بها داخل الجهاز الدبلوماسي أكثر من ضرورية وحتمية، لكن الخوف أن تكون مجرد عملية ترقيع كما يجري ترقيع القطاعات الأخرى، وتفعيل الدبلوماسية الجزائرية في القضايا الأساسية والثانوية ودعمها بالكفاءات شيء طبيعي، لكن السؤال المطروح ما هو دور ومكانة القطاعات المكملة في كل هذه العملية؟
صحيح أن الرجل الأول استقدم رجالا ضالعين في الدبلوماسية والاقتصاد والسياسة، وينتظر أن يفتح ورشة موسعة قريبا للسلك الدبلوماسي بعد إجراء حملة تغييرات واسعة، لكن ما وسع كل ذلك أمام أزمة مركبة داخليا وانكماش خارجيا، وهل بوسع سلطة غارقة في عدم الاستقرار أن تقنع الآخرين بوجاهة مواقفها وشرعيتها في السياسة والاقتصاد والتجارة والمصالح؟
العارفون بالشؤون الدبلوماسية يقولون إنها “بناء مستمر”، ولذلك تبقى السياسات الخارجية لدى الدول الكبرى خطوطا حمراء لا يمكن المساس بها مهما تغيرت الحكومات والسياسات الداخلية، والاختلالات التي طالت الدبلوماسية الجزائرية خلال حقبة بوتفليقة أضرت كثيرا بالمصالح الجزائرية خاصة لدى دول الجوار والعمق الأفريقي.
صحيح أن بوتفليقة، شخصية ضليعة ومحنكة، وكانت عودة الجزائر إلى المحافل الدولية من ضمن أولوياته الثلاث التي خاطب بها الجزائريين عند قدومه عام 1999، والرجل الذي سكن السماء في سنواته الأولى ولم ينزل للأرض إلا لأجل تزويد طائرته بالوقود، تناسى أن للجزائر جوارا وعمقا يمكن أن يفلتا منها وأن الفراغ الذي تركته هناك ملأته القوى الحريصة على مصالحها، ولذلك باتت المنافسة والتهديدات على الأبواب.
تقول الحكمة “أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا”، وهو ما ينطبق على مشروع تبون الدبلوماسي، فلأول مرة يتضمنه مشروع برنامج الحكومة، عكس العقود الماضية عندما كانت حكرا على قصر المرادية، وحصرية ملفات بعينها كالعلاقات مع فرنسا والمغرب لدى الرئيس بوتفليقة، لكن ماذا تبقى في يد الجزائر إن لم تحقق نهضة شاملة تكفل لها الثقل والنفوذ، وليس محاولات رجل مريض.
الجزائر التي اختارت لها الأقدار الجغرافية أن تقتسم نحو ستة آلاف كلم من الحدود البرية مع ست دول، هي في وضع لا يحسد عليه، فهي أمام قوى مقلقة أو منافسة في أحسن الأحوال، فمخرجات الوضع في تونس لا تتحكم فيها لوحدها، وهناك من هو أبعد منها، لكن نفوذه يتنامى عند تخومها، وفي ليبيا لم تعد إلا مجرد قطعة في رقعة شطرنج، ولأن الطبيعة تأبى الفراغ، فإن سنوات الجمود الداخلي كلفها تهديدات منهكة على نحو ألف كلم تقتسمها مع ليبيا، ففيها المرتزقة والميليشيات والجماعات الإرهابية، وكل ما يهدد مصالحها الداخلية والخارجية.
وحتى في أقصى الجنوب وجدت نفسها وحيدة في مواجهة عدو يتقن حرب العصابات واستنزاف الجهود والإمكانيات، وحتى الأوراق الداخلية في مالي والنيجر صارت في يد قوى إقليمية تاريخية ومستجدة. والمخارج التي تريدها فرنسا وتكتل الإيكواس لا تراعي كثيرا مصالح الجزائر. وتحت وضع مشابه لكنه أقل حدة وأكثر ضررا تعيش الحدود الغربية مع المغرب، خاصة بعد التوتر المسجل أخيرا بين البلدين.
لقد شرح برنامج الحكومة معالم الدبلوماسية الجزائرية القادمة عربيا وأفريقيا ودوليا، لكنه لم يفصل في آليات التفعيل، لأن أسهل شيء هو مراجعة وتقييم التركيبة البشرية والمؤسساتية، والأصعب هو استحداث نسق لا يتحقق إلا بنهضة وببناء شامل، فالعلاقات الدولية والعالم ليس جمعية خيرية أو شعارات أو لغة خشب.
الدبلوماسية الجزائرية في حاجة إلى استثمار وتفعيل جميع الإمكانيات المتاحة، وليس مجرد إعادة هيكلة أو استقدام وجوه مخضرمة. لا أحد يملك الحل السحري دون استراتيجية تفكر وتخطط وتثمن الإمكانيات المتاحة، فهي كل متكامل وليست أجزاء مفككة.