المرحلة الاستثنائية في تونس تختبر موضوعية الإعلام وتوازنه صغير الحيدري

الحيدري

بالرغم من أن الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد في الخامس والعشرين من يوليو تشكل امتحانا عسيرا للمنظومة السياسية التي حكمت البلاد بعد ثورة الرابع عشر من يناير 2011 وفي مقدمتها حركة النهضة الإسلامية، إلا أنها تمثل أيضا اختبارا للإعلام التونسي حيث تصاعدت الدعوات إلى أن تقوم المؤسسات الإعلامية والصحافيون على حد السواء بتغطية متوازنة وموضوعية للأحداث التي تشهدها المرحلة الاستثنائية.

تختبر المرحلة الاستثنائية التي دخلت فيها تونس منذ إعلان الرئيس قيس سعيد في الخامس والعشرين من يوليو عن إجراءات شملت إقالة الحكومة وتجميد أعمال واختصاصات البرلمان مدى قدرة الإعلام المحلي على فرض موضوعيته والتوازن في معالجة المواضيع السياسية.

وسلط تقرير صادر عن الهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا)، وهي هيئة محلية دستورية، الضوء على اختلالات شابت التغطية الإعلامية للأحداث التي أعقبت إعلان الخامس والعشرين من يوليو الذي لا يزال يتصدر حديث الشارع التونسي.

وحثت الهيئة في ختام التقرير القنوات التلفزيونية والإذاعية على الالتزام بمبدأ التنوع والتعدد في الآراء والمواقف في البرامج السياسية الحوارية والالتزام بمبدأ التوازن من زاوية وجهات نظر الضيوف.

والانتقادات للإعلام في تونس ليست وليدة اللحظة، لكن في ظل الإجراءات التي اتخذها الرئيس سعيد تتزايد التساؤلات بشأن فرص إصلاح القطاع السمعي البصري الذي لعب دورا بارزا في تشكيل المشهد السياسي في البلاد بعد ثورة الرابع عشر من يناير التي أطاحت الرئيس السابق زين العابدين بن علي.

إخلالات

النوري اللجمي: هناك إخلالات في التغطية الإعلامية للأحداث بعد 25 يوليو

رأت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري في تونس في تقريرها الصادر الاثنين أن القنوات التلفزيونية التي تم رصد تغطيتها للأحداث السياسية التي أعقبت الخامس والعشرين من يوليو خصصت 79 في المئة من برامجها ونشراتها الإخبارية في فترة معينة لتمرير مواقف مناصرة للقرارات التي اتخذها الرئيس سعيد، فيما لم تتجاوز المدة المخصصة للأخبار الرافضة لها 21 في المئة.

ودعت الهيئة إلى ضرورة الاهتمام بمستجدات الشأن العام والالتزام بتمكين المواطن من حقه في المعلومة الدقيقة والشاملة ضمن برامج متوازنة ومتنوعة وعدم الاقتصار على بث النشرات الإخبارية والتغطيات الظرفية. وأوصت كذلك مقدمي البرامج بضرورة الالتزام بمبادئ الحياد والموضوعية وبأخلاقيات المهنة الصحافية تجاه جميع الضيوف.

وقال رئيس الهيئة النوري اللجمي “كانت هناك إخلالات في التغطية، لم يكن هناك توازن في الاستضافات أو غيرها، لم يعد هناك خاصة خلال الفترة التي عُني بها التقرير التنوع الذي تنادي به الهيئة”.

وأوضح اللجمي أن “هذا يعتبر مُخلا بالتزامات وسائل الإعلام التي يجب أن توازن في تدخلات الفاعلين السياسيين، هناك تساؤلات مشروعة، نحن لم نطلق أي أحكام ولا اتهامات لأي طرف، هل مازالت وسائل الإعلام تتحسس هي الأخرى الوضع والصحافيين أيضا؟ لأننا أخذنا الأسبوع الأول بعد إجراءات الخامس والعشرين من يوليو كعينة”.

وتابع “هناك من لا يزال وقتها تحت الصدمة أصلا لأن ما حدث في التاريخ المذكور كان مفصليا في تاريخ ما بعد الثورة، الغموض بقي حتى بعد هذا الأسبوع ونحن لا نبرر لوسائل الإعلام لكن هذا الغموض يجعل الصحافي والإعلامي لا يعرف كيف يطرح المواضيع”.

ويُساير خبراء في الإعلام اللجمي في موقفه حيث يشيرون إلى أنه لا توجد ضغوط سياسية تُمارس على الصحافيين سواء من رئيس الجمهورية الذي بات يتصدر واجهة الأحداث السياسية في البلاد أو غيره.

واعتبر الباحث الإعلامي ماهر عبدالرحمان أن “التقرير الذي أصدرته ‘الهايكا’ يُظهر خللا كبيرا في التوازن، فأغلب وسائل الإعلام تعمل في صالح الرئيس على حساب الأطراف الأخرى”.

واستدرك عبدالرحمان ، “لكن وخاصة بحكم قربي من الإعلاميين فإنه ليس هناك أي دليل على أن مرد هذا الخلل تعليمات من رئاسة الجمهورية بل هو اجتهاد من الإعلاميين أنفسهم”، مضيفا “واعتقادي أنّ وسائل الإعلام لا تقوم بدورها في تمثيل كلّ الأطراف احتراما لمبدئي التّوازن والحياد، بقدر ما هي تسعى للتقرّب من الجمهور الذي هو أغلبه مع كلّ الإجراءات التي اتخذها الرئيس سعيّد”.

وتشهد تونس مرحلة استثنائية بعد أن فعل في الخامس والعشرين من يوليو الذي يُصادف في كل سنة ذكرى إقامة الجمهورية الفصل الـ80 من الدستور حيث أقال الحكومة السابقة برئاسة هشام المشيشي والبرلمان برئاسة راشد الغنوشي الذي يرأس أيضا حركة النهضة الإسلامية ورفع الحصانة عن النواب البرلمانيين.

ويسود الترقب الآن للخطوات التالية خاصة تشكيل حكومة تكون قادرة على معالجة الملفات التي بانتظارها وكذلك خارطة الطريق التي ستحدد ملامح المرحلة المقبلة، وهو ما يزيد من التحديات أمام الصحافيين ووسائل الإعلام التي واجهت لسنوات خططا مختلفة لفرض أجندات سياسية عليهم.

حالة فوضى

حدث مفصلي في تاريخ تونس

بالرغم من أن التحذيرات تصاعدت مؤخرا من أي انحراف قد يطرأ على حرية الصحافة وهي من المكاسب القليلة التي انتزعها التونسيون بعد ثورة الرابع عشر من يناير، إلا أن القطاع المذكور يرزح تحت وطأة فوضى تكاد تكون مُزمنة.

ويشكو الصحافيون من حين إلى آخر من محاولات للسيطرة على مؤسساتهم سواء عبر التعيينات أو غيرها، كما توجد العديد من المؤسسات التي تواجه مصيرا يكتنفه الغموض لأنها مصادرة على غرار إذاعة “شمس أف.أم” وصحيفة “الصباح” اليومية وهي مؤسسات تُشغل العشرات من الصحافيين والتقنيين.

وقال عبدالرحمان إن “الإعلام التّونسي في حالة فوضى وضياع. فرغم الجهود الكبيرة التي تبذلها الهايكا لتعديل المشهد السمعي والبصري، فإنّ قراراتها تبقى غير فاعلة لافتقادها للضابطة العدليّة وتجاهل الحكومات لتلك القرارات. أما الصحافة المكتوبة والإلكترونيّة فتشكو بدورها من اعتداءات فاضحة أحيانا على الحياة الخاصّة وبعضها مليء بالإشاعات المغرضة التي تقف أحيانا وراءها بعض الأحزاب السياسيّة”.

وشدد على أن “السبب الرئيسي في غياب التنظيم في القطاع هو افتقادنا لجهاز متخصّص يتكفّل بعمليّة التنظيم. فلقد كان الاختيار بعد الثّورة هو إلغاء وزارة الاتصال تفاديا للأدوار السلبيّة التي كانت تقوم بها مثل هذه الوزارة في فترة ما قبل الثورة من قمع لحرّية الصّحافة، وتركيز على بروباغندا الرئيس والحزب الحاكم، لكن مثل هذه الوزارة، وأقلّه كتابة دولة ضمن وزارة الثقافة، هي أمر ضروري جدا لتنظيم القطاع بالكامل وإصلاح الإعلام العمومي وتغيير القوانين القديمة للمؤسسات الإعلامية والتي لا تزال سارية إلى اليوم”. ولا خوف من مثل هذه الوزارة أو كتابة الدّولة في ظل مجتمع مدنيّ قويّ، مع أن يتمّ تحديد مهام مثل هذه المؤسسة في قانونها الأساسي حتّى لا تتدخّل في المضامين الإعلامية وتجعلها في خدمة الحاكم. ففرنسا وبريطانيا وكندا لها مثل هذه الوزارات (مجتمعة مع وزارات الثقافة والرياضة)، ولا خشية من تعسفها على حرية الإعلام والاتصال”.
وفي الواقع، الانتقادات للإعلام التونسي لا تتوقف عند أدائه في بعض المحطات السياسية الفارقة مثل الانتخابات أو الأحداث الأخيرة التي أعقبت إعلان الخامس والعشرين من يوليو، لكن أيضا على المضامين التي يبثها هذا الإعلام.

وسقط الإعلام التونسي بالفعل في الإثارة بعد الثورة وهي ظاهرة اجتاحت جل القنوات التلفزيونية والإذاعية الخاصة وحتى العمومية تحت يافطة “الجمهور عايز كده (الجمهور يريد ذلك)”، كما قال أحد المنشطين ذات مرة.

لكن عبدالرحمان يذهب إلى أبعد من ذلك بالتأكيد على أن “المضامين الإعلامية الحاليّة هي واقعة تحت تسلّط الجمهور، وليس السلطة. الثقافة السياسية في مجتمعنا لا تزال محدودة ولم يشتد عودها حيث أنّ ثقافة إلغاء الآخر الذي يُخالفك الرّأي”.

ويرى أنه “بالتالي يسعى كلّ طرف، ليس السياسي فقط، بل حتّى الجمهور، لأن يكون الإعلام ناطقا برأيه هو، ويريد أن يستبعد منافسه منه، وإلا يتمّ وصف هذا الإعلام بكلّ النّعوت السيئة”.

رئاسة الجمهورية

ماهر عبدالرحمان: الإخلالات مردها اجتهاد من الإعلاميين وليس تعليمات من الرئاسة

مع تصاعد المطالبات للإعلام التونسي بأن يتحلى بمسؤولية أكبر في هذه المرحلة، تجد رئاسة الجمهورية نفسها في صدارة المؤسسات التي تُطالبها العديد من الجهات بالتدخل أولا لتحسين استراتيجيتها الاتصالية بما يضمن معرفة الخطوط العريضة لبرامجها لهذه المرحلة وثانيا لما يمكن أن تقدمه الرئاسة لإصلاح الإعلام.

ودعت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري، رئاسة الجمهورية إلى “توضيح رؤيتها حول مستقبل حرية الصحافة في تونس، ورسم سياسة اتصالية ناجعة مع مختلف الأطراف المتدخلة”.

وتترقب الهياكل المهنية إصدار تشريعات جديدة تنظم القطاع وتُرسي مجلسا جديدا لهيئة الاتصال السمعي البصري، وذلك وسط تزايد التكهنات بشأن إمكانية التخلي عن الهيئات الدستورية المُحدثة بعد الثورة.

وقال اللجمي إن “الهيئة تريد توضيحات من رئاسة الجمهورية بشأن مستقبل الإعلام، وتشكيل الهيئة من جديد، نحن كنا ننتظر إصدار مشروع قانون ينظم الهيئة يمر بالبرلمان لكن البرلمان في حد ذاته بات مجمدا”.

وأردف “ندرك أنها فترة استثنائية، لكن إلى أي مدى ستدوم هذه الفترة هذا هو السؤال الذي لم نجد له جوابا بعد، في الأثناء نواصل القيام بعملنا ولكن طلبنا لقاء مع رئيس الجمهورية وننتظر ردا إيجابيا لكي نتحدث عن الملفات التي تهم الإعلام”.

وأوضح رئيس الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري أنه “نرجو أن يكون هناك تواصل بين رئاسة الجمهورية والإعلام وبين الرئاسة والهايكا باعتبار القطاع المهم الذي نشرف عليه لكي يتوضح مستقبل هذا القطاع”.

الانتقادات للإعلام ليست وليدة اللحظة، لكن في ظل المرحلة الاستثنائية تتزايد التساؤلات بشأن إصلاح القطاع السمعي البصري

ولطالما نادت العديد من الهياكل المهنية في تونس بالنأي بالقطاع عن التجاذبات السياسية، خاصة بعد اتهام حركة النهضة الإسلامية التي قادت الحكم بعد الثورة بمحاولة السيطرة بالقوة على وسائل الإعلام سواء عبر تعيينات أو تشريعات تهدد بنسف استقلالية المؤسسات الإعلامية.

وشكلت الأحداث التي عرفتها وكالة الأنباء الرسمية في وقت سابق فصلا من فصول المواجهة بين الحركة والحكومة الداعمة لها من جهة والصحافيين والهياكل المهنية المنضوين تحتها من جهة أخرى بعد رفض تعيين الصحافي كمال بن يونس مديرا للمؤسسة.

وفي وقت سابق أيضا حاول ائتلاف الكرامة الذي يوصف بأنه ذراع من أذرعة حركة النهضة الإسلامية تمرير تعديلات مثيرة للجدل على المرسوم 116 لسنة 2011 المتعلق بهيئة الاتصال السمعي البصري ما فجر سجالات واسعة النطاق.

كما قادت حكومة الترويكا (الحاكمة بين 2011 و2013) حملات ضد الإعلام، ما سلط وقتها الضوء على العداء الذي تكنه حركة النهضة للإعلام التونسي على غرار الاعتصام الذي قام به عدد من الموالين للإسلاميين في 2012 أمام مبنى التلفزيون الرسمي والذي رُفعت فيه شعارات مناوئة لحرية الإعلام مثل “إعلام العار يجب تطهيره”.

وتفاقم هذه المعطيات من المخاوف التي باتت تساور الصحافيين والهياكل المهنية في تونس رغم تأكيد الرئيس سعيد على احترامه للحريات، لاسيما في ظل غياب ملامح لاستراتيجية واضحة لإصلاح الإعلام.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: