الرجل الديبلوماسي الماسك بكل الخيوط، الهادئ بشخصية متزنة وأنيقة
إيطاليا : عبد اللطيف الباز
يعرف الكثيرون منا كيف تُدبر السياسة الخارجية في المغرب، وربما القليل من الناس فقط يجهلون أن وراء الإنجازات التي يتم تحقيقها، عبقرية وحكمة ملكيتان، وأن هناك فريقا متكاملا من الكفاءات يشتغل بشكل جماعي لنسج سياسة خارجية ناجعة، بما لها وبما عليها، ولأن كل فعل إنساني لا يمكن أن يرقى إلى الكمال، فلا شك أن هناك أخطاء ارتكبت، لكنها لا تصل أبدا إلى التغطية على الإنجازات الكبرى، التي تجسدت على أرض الواقع، في مجالٍ محاط بالألغام، ويفرض توازناتٍ دقيقةً جدا، دقة شعرة معاوية التي تفرضها أحيانا مصالح الوطن العليا، والأعراف الديبلوماسية!
نتتبع يوميا انتقادات لاذعة توجه إلى ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، تؤاخذه تارة على تهوره، وتارة أخرى على انبطاحه أو تفريطه، كأن الرجل ينفرد بتدبير كل تفاصيل السياسة الخارجية، شئنا أم أبينا، فالنقد البناء مطلوبٌ لتصحيح الأخطاء وتقويم الاعوجاجات، والتنبيه إلى الثغرات، لكن لا ريب أيضا أن بعضا من “القصف” نابع من تحامل غير موضوعي ضد مواطن مغربي مسؤول، ابن عسكري برتبة صغيرة، نشأ في أسرة متواضعة جدا…
الأمر يتعلق بواحد من أبناء الشعب الأكفاء الذين لم يولدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب، تكوَّن مثلنا في المدرسة العمومية (قبل فشلها أو إفشالها)، حصل على ماسترين في العلاقات الدولية (1993) والقانون الدولي العام (1995) بجامعة محمد الخامس بالرباط، ثم تدرّج في مختلف السلالم الديبلوماسية بوزارة الشؤون الخارجية، بدءا بموظف عادٍ فرئيس مصلحة، فرئيس قسم، فمدير لمديرية الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، ثم مدير لديوان الوزير، فسفير مدير عام للعلاقات المتعددة الأطراف والتعاون الشامل، وصولا إلى منصب الكاتب العام للوزارة، قبل أن يصير وزيرا…
منصب وزارة الخارجية، كما بالنسبة لعدد من المناصب الحساسة (مع استثناءات)، كان حكرا على خريجي المدارس الفرنسية (الذين لن يعجب بوريطة الكثير منهم)، بل حتى نحن أبناء المغرب العميق، قليلا ما نتخلص من عقدة الاستيلاب الفرنكفوني، والانبهار بالآخر، مع أن هذه الحجة قد تستعمل كحق يراد به باطل.
بوريطة ابن تاونات، واحد من كفاءاتنا الوطنية التي تربت وتلقت تعليما عموميا على علاته، قبل أن يقتحم برج السياسة الخارجية لدولة مازالت تبحث لها عن تموقع رصين بين الأمم العظمى، مع أننا نجر وراءنا تاريخا تليدا عظيما، وربما شاءت الأقدار أن يتقلد هذا الرجل البشوش مقاليد المنصب في وقت يتطلع فيه الوطن وجزء كبير من أبنائه، إلى استرجاع الأمجاد، والتموقع بشكل أقوى على الساحة الدولية، بشكل يتناسب مع عراقة شعبنا وحضارته، مع أن الطموح يصطدم بمناورات الجيران شرقا وشمالا، وإكراهات جمة خارجية وداخلية (ترتبط عموما بالجبهة الداخلية الهشة واضمحلال القيم واستمرار الفساد والفوارق الطبقية).
بوريطة يؤدي جزءا من العمل الذي يُنْجز في علاقة مملكتنا بمختلف دول العالم والمنظمات الدولية، والدفاع عن مصالحنا الخارجية وقضيتنا الوطنية الأولى، ولذلك فهذا الرجل، وبكل تجرد، نجح إلى مستوى معين، في أداء مهمته، إلى جانب إخفاقه في بعض المحطات، ونحن هنا لا ننزهه، لكننا في الآن ذاته لا نبخس الناس أشياءهم، ولا ننجر وراء غرور وتعالي وحقد بعض أبناء الأسر “المحظوظة”، الذين احتكروا تدبير الشأن العام عموما، والمناصب الحساسة خصوصا، لعقود، أشخاص بنوا أمجادهم على ديبلومات فرنسية تعد بمثابة صكوك غفران، وحجة على تفوق ينتصر للواجهة على حساب الجوهر، مع أن الموضوعية تفرض علينا الاعتراف بكفاءة عدد منهم.
نجاح بوريطة النسبي، وراءه عوامل عدة، تتجاوز منطق الديبلومات، منها تجربته الديبلوماسية الكبيرة، وتدرّجه في مختلف المهام والمناصب داخل الوزارة، دون نسيان ديناميته الملفتة للنظر، وتواضعه، حتى أن جريدة “الباييس” افتتحت بورتريها حول الرجل بهذه الكلمات: “بنبرة منخفضة، وبنغمة غير مسموعة تقريبًا، بيد أن صدى تحركاته ونشاطاته الدبلوماسية تتجاوز حدود بلاده”، لكن العامل الأكثر تأثيرا، يرتبط بوطنيته العالية والتزامه وانضباطه، واستيعابه لما تتطلبه المرحلة…
في الأخير لابد أن أكرر أن هشاشة الجبهة الداخلية والفساد المهول والاختلالات الاجتماعية والفقر، وفشل المنظومة التعليمية وتدني القيم، تفوّت على المغرب مكاسب أكبر مما يجنيه حاليا على مستوى سياسته الخارجية، وعلينا جميعا الانخراط الفعلي في إصلاح بنيوي شامل، في أفق الوصول إلى دولة “الاستثمار الاجتماعي” والرفاه، ويُضرَب لنا ألف حساب في المعادلة الدولية.