الجزائر والمغرب

ثنيو

سبق وأكدت في مقال لي في 7 إبريل 2021، على أهمية وجود الجزائر في المغرب العربي، على اعتبار أنه الإطار الجغرافي والسياسي الأنسب لبناء واستكمال هويتها، كدولة قائمة في العصر الحديث والمعاصر. تاريخ الجزائر والمغرب، يُقرأ ويُفهم في نطاق المغرب الكبير على اختلاف تسميات جغرافيته.. وجوهر الاختلاف يكمن في سياسة بناء الدولة المدنية لما بعد الاستقلال. الجزائر ضيّعت كثيرا من الفرص، ومن ثم أضاعت إمكانية بناء دولتها المَكِينة التي ناضلت من أجلها، وخاضت في سبيلها ثورتها الكبرى.
أما المغرب فقد قام على النظرية الإصلاحية، أي توفير القدر الكافي من الوضع القائم، مع إمكانية إدخال التعديل الضروري، فضلا عن تَمْثيل الدين والدولة في شخص الحاكم على ما اضطلع به العاهل المغربي الحسن الثاني طوال حكمه، الذي طال لأكثر من ثلاثة عقود، تَرَسَّخت على أثرها مؤسسات المملكة وبنية الدولة، بالقدر الذي استبعدت السلطة العسكرية من الحكم، وأحالتها إلى دورها المعهود في دولة استقلال واستقرار لا تفترض أي وطنيات زائدة عن الحد.
في الجزائر، طغت الوطنية الضيقة والسلطة العسكرية على النظام، الذي حاول عبثا أن يستقر على مؤسسات دولة لا تزول بزوال الرجال والأحزاب والجماعات والمجموعات، بل راح يؤسس لها، على ما لاحظ كل العالم لمّا أضرمت قيادة أركان ومصالح الأمن، نار الفتنة في الجزائر، في أعقاب أن أوشك حزب إسلامي أن يصل فعلا إلى الحكم، في نطاق انتخابات تشريعية ديمقراطية سليمة مئة في المئة نهاية عام 1991، لكن الأمور سارت إلى وجهة أخرى، قُتِلَ وشُرّد أقصى ما يمكن من البشر، ودمر وخرب أقصى ما يمكن من الحجر.. ولم تسعف الجزائريين من الإبادة الجماعية إلا منظومتُهم الاجتماعية القائمة على الدين وتقاليد العائلة وقِيَم الريف وحسن الجوار وحياة التعاون والتكافل. بين الجزائر والمغرب مشترك تاريخي وجغرافي يبتعد عن الصراع والفتنة والخلاف الضار، ويؤكد دائما على القدرة على التواصل والتجاوب، في انتظار الوصول إلى الإطار الأنسب، للمغرب العربي، لمَّا يزول نظام الحكم العسكري في الجزائر، يأخذ مكانه العادي والطبيعي، مثل ما هي عليه الأنظمة التي انتصرت وحازت استقلالها في العصر الحديث، وبنت وأنهت إنجاز مؤسساتها الدستورية والسياسية، وأرست تقاليد في إدارة الشأن العام، وتداول الحكم وتحقيق التنمية والمواطنة. تاريخ المغرب، منذ مرحلة الاستقلال إلى اليوم هو تاريخ استقرار ورسوخ المؤسسات وقوتها المتزايدة، مع زيادة الحاجة إلى التجريد والتنزيه والعمومية، لفائدة الشخصية المعنوية للدولة القائمة بذاتها، فباستثناء بسيط، يؤكد القاعدة ولا يشذ عنها، سار المغرب إلى اتجاه ترسيخ الحكم الملكي، وتعزيز القصر بهالة من التقاليد والطقوس، ومراسيم وإجراءات تتناسب مع نظرية الدولة، في نطاق المدلول الحديث، الذي يؤكد على الإصلاحات، وقدرة رئيس الدولة على تجسيد مقومات الدولة ومؤسساتها. كانت فترة العاهل المغربي الحسن الثاني، فترة تاريخية مهمة في حياة القصر والشعب معا، ومهمة على صعيد الفرد والجماعة أيضا، فالملك يتكلم في الدين ويتكلم في السياسة، لأنه رئيس دولة وأمير المؤمنين أيضا، فهو عندما يتكلم في الدين يدلي بكلمته أي رأيه كعارف، كما أنه عندما يتكلم في السياسة فهو يدلى بكلمة أي برأيه. ومعنى الكلمة هي ما عناه الفيلسوف الفرنسي آلان، عندما قال إن الإنسان جاء إلى هذه الدنيا لكي يدلي بكلمة. وقد جاء الملك الحسن الثاني إلى هذه الدنيا وغادرها وبقيت كلمته التي تعني صنيعه الذي توكأ عليه ابنه الملك محمد السادس، وحكم بكل أريحية ويسر، وصل به الأمر إلى تقييد الحكم الملكي بالنظام الدستوري عام 2011، وفتح المجال إلى انتخابات تشريعية أوصلت حزبا إسلاميا إلى تشكيل حكومته الخاصة، وهو لا يزال يحكم إلى اليوم.

نظام الحكم في الجزائر نظام عسكري متَرَهَّل يقود البلد إلى مزيد من التفكك والتشتت، لأنه يحكم في غير عصره وزمانه

نظام الحكم في الجزائر نظام عسكري متَرَهَّل ومُتَهَالك، يقود البلد إلى مزيد من التفكك والتشَظي والتشتت، لأنه يحكم في غير عصره وزمانه. فقد ولّى النظام العسكري، دونما رجعة في كل العالم إلا في الجزائر، تشهد على ذلك الوقائع القائمة اليوم، التي كانت احتمالات في السابق، ونقصد خلطا رهيبا للخريطة السياسية، وتداخل السلطات، الصلة الملتبسة بين قيادة الأركان ورئاسة الدولة، الاعتراض الدائم على وصول المعارضة إلى الحكم، وإمكانية تداول سلس للحكم وتدبير معقول ومقبول للشأن العام، احتمالية انفصال منطقة القبائل، بسبب إمعان النظام القائم على التحرك الدائم في الحيز غير الشرعي، الذي وفّرته القيادة العليا لرئاسة الدولة. وعليه، فبين الجزائر والمغرب اختلاف في مسار لما بعد الاستعمار، انتهى إلى تفوق المغرب بسبب سياسته الإصلاحية، التي مكنته دائما من المراجعة والتعديل والتَّكَيف مع الأوضاع الجديدة والمستحدثة، في ما خاب النظام الجزائري الذي عوّد نفسه على الحكم في الظروف الاستثنائية والسياقات الشاذة في ظل أحكام عرفية، اغتيالات سياسية، حالات الطوارئ وحظر التجوال، تستند كلها إلى مسودات متتالية من الدساتير لرؤساء تعينهم القيادة للعليا للبلد. هذا المسار هو الذي كان يعنيه المثقف والمناضل الجزائري فرحات عباس في كتابه عن الجزائر «مصادرة الاستقلال». عندما نتمثل كمثقفين واعين ما يجري في الجزائر، لا يمكن أن نستبعد إطلاقا، أن إجراء قطع لعلاقاتها الدبلوماسية مع المغرب هو تنكر فادح لجزء من علاقتها العضوية القائمة على احتمالية استعادة، عبر تطور مؤسسات الدولة، لهوية كيانها العادي والطبيعي، تواجه به تحديات التاريخ المعاصر ورهاناته. وجه الخطر الحقيقي لإجراء قطع الجزائر لعلاقتها الدبلوماسية مع جزء من كيانها المحتمل هو الذي سوف يفضي إلى مزيد من تفكيك ما بقي من الكيان الجزائري، في ما سيزيد من تعزيز الدولة المغربية بعد ما صارت جهة استقطاب وجذب ليس للملايين من السياح فحسب، بل لاستثمارات معتبرة للجزائريين أيضا، منها على وجه الخصوص الاستثمار السياسي عندما يشتد الضغط والصد على السياسيين الجزائريين.. وقد ظهرت الإرهاصات الأولى فعلا. وبمعنى آخر، لا نبتعد فيه كثيرا عن ما جاء في هذا المقال، أن إجراء قطع الجزائر لعلاقتها مع المغرب، هو بمثابة تطور داخلي لمسار سلطة عسكرية، لا تستطيع أن تحكم خارج نظام الأوامر، سواء في الظروف الاستثنائية أو في الظروف التي تعتبرها السلطة ظروفا عادية، لأن صيغة: «بأمر من الرئيس» أو «كما أمر الرئيس» أو» على ما جاء في قرار الرئيس» هو «الأسلوب الدبلوماسي» الداخلي، المتداول في الجزائر، همُّه الأول استبعاد وصول المعارضة الحقيقية إلى الحكم، وها هو اليوم، يريد أن يستبعد، عبر إجراء قطع علاقته الدبلوماسية مع المغرب، قيام دولة متفوقة على حدوده.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: