منذ ظهور صفحته على فيسبوك باسم “الجنرال القط” بداية العام 2013 شكل المدون محمد الوالي لغزا كبيرا لدى الجزائريين، لاسيما وأن الرجل أبان عن عبقرية كبيرة في اختراق الأسرار الكبرى لمؤسسات الدولة، لكن مع المآلات التي انتهى إليها الوضع في البلاد، ثبت أن المدون كان لعبة استخباراتية تمهيدا للتحولات العميقة التي عاشتها الجزائر في السنوات الأخيرة، أو ذراعا استخدمت للتبشير بالعهد الذي هيأ له قائد الجيش السابق، لكن رحيله المفاجئ وانقلاب السحر على الساحر فجّرا البالون المنتفخ وتأكد أنه لم يكن إلا كميّة من الهواء لا غير.
وظل “الجنرال القط” مصدر معلومات قويا للجزائريين حول دواليب السلطة والمؤسسات طيلة السنوات الماضية، قبل أن يكشف عن هويته ويقدم نفسه على أنه المدون محمد الوالي، المقيم في بريطانيا، ورغم ذلك بقيت الاستفهامات تلاحق الرجل، حول شخصيته وعبقريته وقدرته على الاختراق ونفوذه داخل دوائر القرار.
دهاليز التيار الفرنسي – البربري
الوالي جامعي ينحدر من محافظة مستغانم بغرب البلاد، تلقى تعليمه الابتدائي والمتوسط والثانوي في قريته الساحلية، قبل أن يتخصص في البيولوجيا، ويتولى منصب رئيس مصلحة الإيواء والنقل بجامعة مستغانم
وعلى مدار سنين عدة ظل “الجنرال القط” لغزا محيّرا لدى المتابعين للشأن الجزائري، قياسا بما كان ينشره حول فساد سلطة الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، ويدعو إلى تحرير البلاد من النفوذ الفرنسي والتيار الفرانكو- بربري، لكن مخرجات صراع أجنحة السلطة أفضت إلى أن الوالي كان قد استغل لتمرير لعبة استخباراتية عمدت إلى تحضير نفسي للجزائريين للعهد الجديد، لكن انهيارها كلعبة الدومينو منذ 2019 جعل مشروع الجنرال القط لإنهاء الوصاية الفرنسية وتطهير البلاد من الأمازيغ ينهار هو الآخر بنفس السرعة.
الوالي شاب جامعي ينحدر من محافظة مستغانم بغرب البلاد، تلقى تعليمه الابتدائي والمتوسط والثانوي في قريته الساحلية، قبل أن يتخصص في البيولوجيا في جامعة مستغانم، وتولى منصب رئيس مصلحة الإيواء والنقل بجامعة مستغانم، قبل أن يقرر شد الرحال إلى بريطانيا ويتحول إلى لغز محير.
وتذكر إحدى الروايات بأن النقطة الفارقة في حياة الرجل كانت بعد توليه المنصب الإداري المذكور في الجامعة، إذ وقع في خلاف مع أحد الأساتذة أو إدارة الجامعة ما تسبب في طرده بطريقة تعسفية، وهو ما حزّ في نفسه وترك جرحا لم يندمل حتى يوم وفاته ليقرّر بعدها ترك البلاد والهجرة نحو الخارج. القرار لم يكن سهلا فالرجل معروف عنه حبه لبلدته وأهله، غير أن ثمة ظروفا قاهرة جعلته يتخذ ذلك القرار الحاسم في حياته لتكون الوجهة نحو كندا ثم فرنسا ثم بريطانيا ثم غلاسكو بأسكتلندا أين فارق الحياة هناك.
وبدأت تجربته مع عالم التدوين بحسب بعض الشهادات العام 2010، إذ يروي الناشط نورالدين خبابة بأنه “كان يسألني بحكم إدارتي لإذاعة تبث على النت، عن بعض الناشطين السياسيين المعارضين والضباط الفارين، كما هو الشأن بالنسبة إلى كريم مولاي وحسين هارون وأحمد شوشان، الأمر الذي أثار شكوكي حوله بأن يكون عنصرا استخباراتيا“.
ويضيف خبابة ”أعاد الاتصال بي وطلب منّي أن أتوسط له للحديث مع شوشان، لأنه لم يكن يردّ على اتصالاته وأخبرني أنه من المتابعين للحوارات ومنبهر بالمعلومات التي ننشرها وأنه يتعلم، فاقترحت عليه المشاركة معنا فقال لي بأنه لا يحسن التعبير، ويفضل الاستفادة“.
تبلور مشروع التطهير العرقي
خلال تلك السنوات كانت فكرة التحرر من النفوذ الفرنسي ومن التيار الفرانكو – بربري، تتبلور لدى الوالي، ويبدو أنه استطاع إقناع بعض الناشطين المعارضين في المهجر، فهو كان يرى أن “سبب الوضع الذي تعيشه البلاد هو الهيمنة الفرنسية على دوائر القرار، وتغلغل اللوبي البربري في مفاصل الدولة والمؤسسات المهمة والكبرى”، وهو التحالف الذي كان يديره الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة بجدارة وامتياز.
كان الوالي يمقت الطائفة الفرنكو – قبائلية وينعتها بمصطلح ”الزواف“ والذي عرف رواجا واستعمالا كبيرا من طرف رواد فيسبوك خاصة بعد وفاته، ولعل تلك العقدة تشكلت في داخله وظل يضمرها لمّا كان في الجزائر، غير أنه وبمجرد ما هاجر نحو الخارج قام بالإعلان عنها وتمثلت جليا في منشوراته على فيسبوك التي كانت في مجملها تصب في تلك الخانة.
وأبدى الوالي انبهاره بمشروع مماثل عرف بـ”جبهة رفع الوصاية الفرنسية عن الجزائر” التي كان يروّج لها في منتصف العشرية الأخيرة الضابط الفار أحمد شوشان، ولم يتأخر في الدخول في مناكفات مع منبر إعلامي جزائري في لندن محسوب على الإسلاميين والأمازيغ بسبب ما كان يراه دعما للبربر.
ومباشرة بعد انكشاف الصراع بين بوتفليقة ومدير جهاز الاستخبارات السابق ”توفيق“ بداية من العام 2013، تخندق الوالي إلى جانب المؤسسة العسكرية وصقورها، كما كان يمدح كثيرا التصريحات المدوية لأمين عام حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم حينها عمار سعداني، الذي يوصف بـ”شرارة الصراع بين قيادة الأركان والمخابرات”، وأبدى دعما منقطع النظير لسعداني ولقائد الجيش الراحل أحمد قايد صالح، وصار يروج في منشوراته لـ”مستقبل مشرق للجزائر بعيدا عن الزواف والفرنكو- كابيل ومخابرات فرنسا”.
لترويج لخطاب التفرقة
وإذ ثبت أن هذا المدوّن ليس شخصية وهمية، وأن العديد من الشهادات تحدثت عنه أو معه، لكن الغريب هو تماهي أفكاره مع مشروع السلطة العسكرية السابقة في ما يتعلق بالعلاقات مع فرنسا ووضع الأمازيغ، لاسيما وأنه ثبت وجود خطط كان يشرف عليها ضباط سامون في المؤسسة العسكرية لتنفيذ تلك الأفكار، وهناك جنرالان في السجن العسكري بتهمة “الترويج لخطاب التفرقة وخطاب الكراهية وتهديد الوحدة والتماسك الوطني”، ويتعلق الأمر بكل من واسيني بوعزة مدير الأمن الداخلي السابق، وعبدالحميد غريس الأمين العام السابق أيضا لوزارة الدفاع الوطني.
“الجنرال القط” يعدّ مصدر معلومات قوياً للجزائريين حول دواليب السلطة والمؤسسات طيلة السنوات الماضية، قبل أن يكشف عن هويته ويقدّم نفسه على أنه المدون محمد الوالي المقيم في بريطانيا
والأغرب من ذلك أن صفحته على فيسبوك بقيت قيد الاشتغال بعد وفاته في بريطانيا العام 2018، وتبث نفس الأفكار والأطروحات التي استعرت بقوة خلال السنوات الثلاث الأخيرة خاصة بعد انطلاق احتجاجات الحراك الشعبي في 2019، كما أن قبره بمسقط رأسه في محافظة مستغانم، تحول إلى مزار لأنصار المشروع المعروفين بـ”التيار الباديسي – النوفمبري”، كما أطلق بعض هؤلاء في 2019، ما عرف بـ”مشروع القطط” تيمنا بالملهم الجنرال القط، لاستكمال مسار تطهير البلاد من البربر ومحاربة النفوذ الفرنسي.
ولا يستبعد متابعون للقضية أن يكون المدون محمد الوالي قد تم استغلاله من طرف دوائر استخباراتية لتفعيل الحملة المناوئة للنفوذ الفرنسي والفرانكو- بربر، بعدما تأكدت من توجهاته وأفكاره الشخصية، وأن استمرار نشاط الصفحة بعد وفاته يحيل إلى وجود من كان يستغلها واستعمالها للترويج لتلك الأفكار.
وتذكر إحدى الروايات التي تقصت حول شخصية الوالي والذي كان مهاجرا غير شرعي، وحتى شغله كان في مقاولة لطلاء البنيات يملكها شخص باكستاني، فتقول “لم يكن اجتماعيا كثيرا ولم يكن معروفا كثيرا بين أوساط الجزائريين المقيميين في غلاسكو الأسكتنلدية، غير أن بعض من عايشوه ذكروا أنه كان كثير التدخين ويرتاد المسجد”.
ما شد قراءه ومتابعيه هو تبحره في فهم الخارطة الجيوسياسية التي كانت تحكم البلاد وقتئذ، فقد كان بارعا في تحليل الأحداث التي كانت تتسارع ما طرح تساؤلات عدة حول مصادر معلوماته، وعمّن كان يزوده بها حتى ظنه الكثير ضابط مخابرات وهو لم يكن كذلك.
وفي أيامه الأخيرة عرف عنه تشاؤمه وميله أكثر للانعزال ومع اشتداد المرض الذي ألمّ به، والذي اكتشف أنه سرطان المعدة وافتقاره لمن يساعده في محنته، لم يجد إلا شقة جزائريين مغتربين يعيشان في أسكتلندا اللذين ساعداه ومكثا معه قبل أن يفارق الحياة في الثالث عشر من أغسطس 2018، بعد رحلة شاقة وغامضة لينقل جثمانه إلى مسقط رأسه ويدفن فيه في الثامن عشر من أغسطس من نفس العام.
لكنّ الشخصية الانطوائية للوالي ووضعه الاجتماعي والنفسي كمهاجر غير شرعي في الأراضي البريطانية، ونهايته المأساوية في أحد المشافي حيث قضى أياما معتبرة في غرفة حفظ الجثث لصعوبات نقله إلى مسقط رأسه، وابتعاده عن مرافقة الجزائريين والعرب في أسكتلندا، يضعه بجد في موضع شك بأن يكون هو صاحب الصفحة التي كانت تنشر معلومات في غاية السرية وتتنبأ بتطورات الوضع في الجزائر، وتؤسس لمشروع كان في طليعة اهتمامات أكبر مؤسسات الدولة.
ومع بقاء الغموض يلف شخصية الرجل ورحيله عن الدنيا حاملا أسراره معه، استطاع أن يتحول إلى رمز لتيار يعادي الفرنسيين والبربر، ويوصف بـ “صانع الوعي الجديد”، ومن قبره اندلعت الجذوة التي أشعلت طريق استئصال الفرنسيين والبربر، قبل أن ينهار المخطط ويسقط منظّروه تباعا.
وهناك من حاول الربط بين خزان المعلومات المهمة التي كانت تنشر في الصفحة، وبين الحقيبة الضائعة من الديبلوماسي البريطاني وودوارد جوني العام 2006، والتي كانت تحتوي مجموعة كبيرة من الوثائق والملفات، وهو الذي عمل في العديد من الدول العربية وهو مهتم كثيرا بدراسة الشأن الجزائري.
وتذكر بعض المصادر بأن الدبلوماسي الذي تقاعد في 2005 وأقام في 2006 بغلاسكو، فقد مجموعة كبيرة من الوثائق والمراسلات حين ضاعت مع حقيبته، وقد قام بإبلاغ الشرطة بالواقعة، ونشر إعلانا بفقدان الحقيبة في صحيفة ذي صان البريطانية الصادرة في نوفمبر 2006.
وشككت روايات أخرى في رواية الوفاة برمتها، واعتبرت أنه إذا كان الوالي قد توفي في مشفى بمدينة غلاسكو، ودفن في مسقط رأسه بمحافظة مستغانم، فإن الجنرال القط حي يرزق، وإن الأمر يتعلق بنهاية مهمة وانسحاب من شبكات التواصل الاجتماعي، وتستدل على ذلك بما قالت إنها منشورات لصاحبها تحدثت في الأيام الأخيرة عن قرب انسحابه من العالم الأزرق.
مخرجات صراع أجنحة السلطة تكشف أن الوالي كان قد استُغل لتمرير لعبة استخباراتية عمدت إلى تحضير نفسي للجزائريين للعهد الجديد.