حتمية المقاربة الجديدة في العلاقات الجزائرية – المغربية

بليدي

من منصة رمطان لعمامرة في مبنى عبداللطيف رحال بالعاصمة، إلى مسؤولين سامين في الحكومة المغربية، ومنهما إلى الرياض وأبوظبي وباريس، كان الأسف على قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، لكن إذا كان الأمر كذلك ما الذي شحن الوضع إلى هذا المستوى من التعاطي الدبلوماسي.

الأكيد أن ما يخفى على الرأي العام هو أكبر ما يتم تداوله على وسائل الإعلام وفي الدوائر السياسية والدبلوماسية، وأن أزمة الثقة بين البلدين مستفحلة ومتراكمة، ولذلك جاء القرار مفاجئا، لأن تقاليد الدبلوماسية الجزائرية لم يحدث لها أن تعاملت بهذا المنحى إلا في حالات استثنائية جدا.

أحيانا يكون الألم الملاذ الوحيد لعلاج مرض ما، وبما أن القطيعة الدبلوماسية بين الجزائر والمغرب باتت في حكم الواقع، وبغض النظر عن الأسباب والخلفيات، والتضارب بين القيادتين في الجزائر والرباط، فإن المسافة الواحدة التي أبدتها العديد من العواصم العربية والغربية بين البلدين، هي مؤشر إيجابي على إمكانية تحقيق الأمل المعبر عنه في الرياض وأبوظبي وباريس، في العودة القريبة لعلاقات البلدين.

والمؤكد أن النوايا الحسنة سواء في البلدين أو في المحيط، تريد تحويل هذا التحول المؤلم، إلى فرصة للمراجعة وإعادة النظر في مختلف المسائل الخلافية بين البلدين، للعودة إلى المسار الطبيعي، فليس هناك أي سلطة أو لوبي أو دائرة، يمكن أن تفرق بين الشعبين الشقيقين، وقدرهما التاريخي والجغرافي أنهما جاران ليس بوسع أحدهما زحزحة الآخر من موقعه أو مكانه.

إن ما يجمع بين الطرفين وما يشتركان فيه أكثر بكثير مما يفرقهما، فالتاريخ واللغة والدين والمصلحة تجمعهما منذ قرون، وإذا فشلت النخب الحاكمة في تحقيق طموح شعوب المنطقة في الوحدة والتكامل لأسباب مختلفة، فإن أواصر الشعبين ضاربة في العمق ولا يمكن ملامستها إلا من طرف من يدرك معاني الدم الذي يسري في أوصالهما.

وإذ لم يعد للشارع رأي أو موقف وازن في صناعة القرار السياسي، وأن المسألة تستفرد بها القيادتان السياسيتان، فإن الشعبين لم ينجذبا إلى قرار القطيعة، لأنهما يدركان بأن العلاقات الدبلوماسية لم تكن في المستوى منذ عقود، واستمرارها بذلك الشكل أو حدوث القطيعة لا يغير في الموقف الشعبي شيئا، وباستثناء بعض الخلايا الذبابية التي تدفع إلى المزيد من التأزيم، فإن الانتباه الإقليمي والدولي للموقف المستجد يحرص على تفادي التصعيد، لإدراك الجميع أهمية استقرار المنطقة ودور البلدين في تأمينها، وهو الأمر الذي يتوجب على القيادتين الانتباه له.

الحفاظ على الجانب الإنساني والاقتصادي سيبقي على شعرة معاوية، والأمل في أن تتحول الأزمة إلى سبب في مراجعة كل طرف لأوراقه ووضع مقاربة جديدة بأولويات تتجاوز المسائل الخلافية بين البلدين

ولما كان رمطان لعمامرة، يسرد في الأسباب التي دفعت بلاده إلى اتخاذ موقف القطيعة، كانت ملامح المناخ الذي أفرز القرار، تعود بأذهان المتابعين إلى حالة الضغط وتراكم الأزمات التي أربكت النخبة الحاكمة، فزيادة على متاعب الوضع السياسي الناجم عن احتجاجات الحراك الشعبي، باتت الأزمة الداخلية تستنسخ فصولها الواحد بعد الآخر.

السلطة الجزائرية الجديدة التي انبثقت من عنق زجاجة منذ عامين، لم تستقر في مقعدها لاستكمال مسار بناء المؤسسات الدستورية، حتى انبرت لها أزمة مركبة انصهر فيها الأمن الإقليمي في الجنوب والشرق، بالوضع الاقتصادي والاجتماعي المقلق نتيجة تقلص المداخيل وتداعيات وباء كورونا، ثم استهداف التماسك الداخلي بخطاب الكراهية والعنصرية، فكانت قاب قوسين أو أدنى من فتنة عرقية، في أعقاب موجة غير مسبوقة من الحرائق خطط لها بشكل دقيق.

ويبدو أن سرد الرجل للأسباب التي برر بها قرار بلاده، أن أزمة ثقة مستفحلة في علاقات البلدين، ولو أن استعراض المحطات التاريخية المؤلمة بداية من حرب الرمال إلى غاية الآن، لن يحجب ما يربط البلدين والشعبين عبر التاريخ وخلال عقود الاستقلال، وسعيهما في أكثر من مرة إلى تجسيد علاقة عادية بينهما.

غياب الثقة وحالة الشك المستفحلة غلبت الكفة لصالحها في أكثر من محطة، غير أن الواضح أن الوضع الداخلي والإقليمي للجزائر، يكون قد ضغط بطريقته على القرار الدبلوماسي، فقد سبق لعلاقات الطرفين أن توترت بشكل لافت، لكن لم تقدم الجزائر على قرار مثل هذا، وظلت “صابرة”، على حد تعبير رمطان لعمامرة، فما الذي استجد حتى يصل الأمر إلى مستوى القطيعة.

الأكيد أن التحولات المتسارعة داخليا وإقليميا رمت بثقلها على القرار الجزائري، وباتت في حاجة ماسة إلى ضمانات ثقة وجبر خواطر، وهو ما رأته غير متوفر أو حتى مهدد، لكن الهامش الذي أحدثته نخب محلية يؤكد أن القطيعة المعلنة صارت أمرا واقعا، والأجدر هو التفكير في العودة إلى الوضع الطبيعي، فحتمية الجوار والمصالح المشتركة والدور المنوط بالجزائر والمغرب، يجُبُّ ما قبل الأزمة ويرغمها على التفكير في مقاربة جديدة تستلهم فيها أخطاء الماضي وتخطط لمستقبل أفضل.

وهو ما يتأكد من إحصائيات مؤسسات الاتحاد الأفريقي، التي تعتبر منطقة شمال أفريقيا المجموعة الأضعف في القارة من حيث التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي مقارنة بالمجموعات الأفريقية الأخرى، والسبب هو القطيعة المعلنة وغير المعلنة بين البلدين الجارين، حيث تضيع مليارات الدولارات بسبب التجاذبات الدبلوماسية الأزلية.

وإذ يرسم المتشائمون سيناريوهات قاتمة للتوتر الجزائري المغربي، ولا يستبعدون تصعيدا في المستقبل خدمة لأجندات تخدم دوائر معادية للمنطقة، فإن الحفاظ على الجانب الإنساني والاقتصادي هو الذي سيبقي على شعرة معاوية في الملف، والأمل في أن تتحول الأزمة إلى سبب في مراجعة كل طرف لأوراقه ووضع مقاربة جديدة بأولويات تتجاوز المسائل الخلافية بين البلدين.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: