إذا كان بإمكان الأفراد أن يختاروا أو يغيروا جيرانهم، فإن من المستحيل على الدول والشعوب فعل ذلك. وتبقى علاقات حسن الجوار هي القدر المحتوم الذي من شأنه أن يحلّ جميع الأزمات.
هذا هو المبدأ الذي آمنت به دولة المغرب طيلة عقود التوتر التي طبعت علاقتها مع الجزائر، الجارة الشرقية التي ما تنفك الطبقة الحاكمة فيها من النفخ في رماد الخلافات، مهما كانت صغيرة، بدل إخمادها أو حتى فسح المجال للمجتمع الدولي كي يقترح الحلول المناسبة.
ما سبب هذا التعنت الجزائري الذي بلغ أعلى مراحل التصعيد الدبلوماسي والسياسي بإقدام الجزائر على قطع علاقاتها مع المغرب في خطوة متوقعة بالنظر إلى تصريحات مسؤوليها، لكنها غير مبررة إذا علمنا أن المغرب، ومنذ أيام قليلة، دعا على لسان العاهل المغربي الملك محمد السادس في الخطاب السنوي بمناسبة ذكرى جلوسه على العرش، الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون إلى “تغليب منطق الحكمة” والعمل في أقرب وقت على تطوير العلاقات المتوترة بين البلدين، مجددا الدعوة إلى فتح الحدود المغلقة.
ما الذي استجد في هذه العلاقة المتوترة أصلا حتى يتحدث جنرالات الجزائر بمثل هذه اللغة العدائية ضد المغرب الذي يقابلها بتغليب العقل ومنطق الحوار والتفاهم؟
الجانب الجزائري يتذرّع في كل مرة بأسباب تبدو واهية، غير مقنعة وبعيدة عن المنطق، للتدخل في قضايا سيادية تخص السياسة الخارجية للمغرب، وربطها بالأمن الإقليمي في محاولة لاستدعاء قضية الشرق الأوسط إلى المنطقة من خلال انتقاد العلاقة الدبلوماسية بين المغرب وإسرائيل تارة، واتهام جارته بالتدخل في شؤونه الداخلية وتحريض الحركات الانفصالية تارة أخرى.
حتى الحرائق التي أشعلت غابات أوروبا وأستراليا والولايات المتحدة، بفعل ارتفاع درجات الحرارة، تصبح لدى جنرالات الجزائر بفعل فاعل معروف وجاهز لتلبس التهمة، هو المغرب. فما قصة هذه السياسة الدونكيشوتية في الجزائر؟
يمضي المسؤولون الجزائريون في حشد ورصّ أسباب في معظمها هلامية وعائمة وذلك لتبرير ما أقدمت عليه السلطات الجزائرية من تصعيد وصل إلى حد سحب سفيرها من الرباط، كاتهام وزير الخارجية الجزائري رمطان العمامرة، المغرب بـ”شن حملة إعلامية دنيئة” ضد بلاده، و”التعاون مع منظمات إرهابية”، و”التجسس على مواطنين ومسؤولين جزائريين”، مرفقا هذا الخطاب بعبارات شعبوية موجهة إلى الداخل الجزائري من قبيل أن بلاده تعرضت إلى “حرب إعلامية دنيئة وواسعة من قبل أجهزة الأمن والدعاية المغربية، التي لا تتردد في نسج سيناريوهات خيالية وخلق الإشاعات ونشر معلومات مغرضة”.
واتهم وزير الخارجية الجزائري المغرب بـ”بالتعاون” مع “ماك” و”رشاد”، المصنفتين كمنظمتين إرهابيتين من طرف الحكومة الجزائرية، بالضلوع في الجرائم المرتبطة بالحرائق المهولة التي شهدها عدد من المحافظات مؤخرا، إلى جانب عملية التعذيب والقتل الهمجي التي راح ضحيتها المواطن جمال بن إسماعيل، الشاب الذي أسهم في إطفاء الحرائق بمنطقة تيزي وزو الأمازيغية ثم اتهم بالتورط في تلك الحرائق وفق رواية روجتها أطراف من داخل الحكومة والمخابرات الجزائرية لزرع الفتنة داخل المجتمع الجزائري كما يقول ناشطون محليون.
ويشير عارفون بالشأن الجزائري إلى أن الطبقة العسكرية التي تمثل الحاكم الفعلي في الجزائر، إذا ما اختلفت في ما بينها تصطنع الأزمات لتصدرها إلى الخارج وتلهي الرأي العام عن معاناته الحقيقية بتحميل جهات خارجية ما يجري في البلاد، والعزف على أوتار الوطنيات، واستنهاض المشاعر القومية والدينية وغيرها.
ومن بين هؤلاء الناشطين، الصحافي الاستقصائي الجزائري أمير ديزاد، الذي كشف النقاب عن عدة ملفات ومستندات تخص سياسيين وجنرالات في الجزائر. وقدم معطيات تخالف الرواية الرسمية للسلطات الجزائرية في مقطع فيديو على قناته على موقع يوتيوب، أشار فيه إلى أن السلطات الجزائرية تحاول فرض روايتها بشأن ما حدث مؤخرا في البلاد. وقال “كفي عن الكذب على الشعب.. ما حدث هو صراع الأجهزة والمخابرات وكلاهما يتحمل المسؤولية.. المجرم الحقيقي، العقل المدبر للجريمة هم الجنرالات وهم لازالوا طلقاء..”.
الطبقة العسكرية التي تمثل الحاكم الفعلي في الجزائر، إذا ما اختلفت في ما بينها تصطنع الأزمات لتصدرها إلى الخارج وتلهي الرأي العام عن معاناته الحقيقية بتحميل جهات خارجية ما يجري في البلاد، والعزف على أوتار الوطنيات
وأدان العضو المؤسس في حركة “رشاد” والمعارض الدبلوماسي السابق محمد العربي زيتوت في بث مباشر نشره على صفحته الرسمية على “فيسبوك” جريمة مقتل الشاب جمال، وكذلك الحرائق التي طالت البلاد وأشار إلى من وصفهم بـ“العصابات” بالوقوف خلفها وقال “هي عملية منظمة يقصد بها ضرب مجموعة من العصافير.. من جهة الإلهاء عن قضية المياه والفقر في الصحراء، ومن جهة أخرى إشعال نار التفرقة”.
الجانب المغربي تعامل مع هذا التصعيد الجزائري بالمزيد من الحكمة والرصانة كما ورد في بيان الخارجية الذي أكد على أن المملكة المغربية “ستظل شريكا موثوقا ومخلصا للشعب الجزائري وستواصل العمل، بكل حكمة ومسؤولية، من أجل تطوير علاقات مغاربية سليمة وبناءة”.
هذا الموقف الرسمي تناغم مع مشاعر المواطنين في كلا البلدين الشقيقين، الذين يدركون أن لا تداعيات اجتماعية سوف تنشأ من جراء الخطوة الجزائرية إلا ما قد ينجر من متاعب تطال الاقتصاد المغربي في حالة التصعيد من الطرف الجزائري كإغلاق المجال الجوي للرحلات القادمة من وإلى المغرب، بالإضافة إلى احتمال إيقاف أنبوب الغاز المغاربي – الأوروبي الذي ينطلق من الجزائر إلى إسبانيا.
وما عدا ذلك فإن التبادل التجاري بين البلدين لا يتجاوز الواحد في المئة، إلا أن كل التوتر ينصب في الانتشار العسكري الجزائري على الحدود المغربية، وتحريض جبهة البوليساريو على استفزاز القوات المغربية في ظل اتهام الجزائر الرباط بخرق اتفاقية وقف إطلاق النار.
ما تسوقه الجزائر من مبررات لا يقنع أحدا.. بدليل كثرة هذه المبررات وتعددها.. إنه مأزق الجنرالات حين يمارسون السياسة ويغطون على فسادهم.