لا يزال التيار السلفي في الجزائر أسير نظرة “العموم” الاستعلائية، في ظل قناعته الربانية الراسخة لديه، بكونه الأقرب إلى خالقه، بينما من يخالفونه الاعتقاد والسلوك هم فئات دنيا، يتوجب إبقاء مسافة محددة معها، الأمر الذي أبقاه في عزلة اجتماعية، حتى في عز الأزمات الكبرى التي تستوجب تكاتف جميع الفئات والقوى الحية في المجتمع.
وهاجم ناشطون سلفيون على شبكات التواصل الاجتماعي، حملة التضامن الاجتماعي المفتوحة من طرف نخب صحية وفنية ورياضية، من أجل التكفل بالوضعية الوبائية المتدهورة في البلاد، حيث تم فتح عملية تبرعات واسعة بالأموال والعتاد، واختير لها أسماء ونجوم من عالم الفن والرياضة للترويج لها.
ووجد هؤلاء في شخص الفنانة نوميديا لزول، التي اختيرت من أبرز الشخصيات المؤثرة في العالم الافتراضي، شماعة لتبرير هجومهم على حملة التضامن، بناء على “فنها وشخصيتها وملبسها وعدم تدينها”، مما يتنافى حسب – هؤلاء – مع عقيدة “الفئة الناجية من النار” (السلفية).
ورغم انخراط مختلف الفئات الاجتماعية في حملة التضامن الواسعة باختلاف المشارب السياسية والأيديولوجية انقسم الوعاء الإسلامي بين إخواني متحفظ رغم أن النشاط الاجتماعي يدخل في صلب أيديولوجيتهم، وبين سلفي يصر على انتقائية التضامن وحصره في المنتسبين إليه، دون بقية المجتمع في إطار نظرة “العموم”.
واكتفى زعيم التيار السلفي في الجزائر محمد علي فركوس، بتوجيه نداء للجزائريين من أجل الإقبال على عملية التلقيح، لأنها الحل الوحيد المتاح حاليا لمواجهة وباء كورونا، بينما لم يدل بشيء بشأن التضامن الاجتماعي رغم أنه يدخل في صلب الرسالة الإسلامية، ولا عن الهجوم الذي يشنه أنصاره على حملة التضامن المنتظمة تحت شعارات دينية.
وكثيرا ما فاجأ الزعيم السلفي المذكور، الرأي العام في الجزائر، بإصدار فتاوى مثيرة للجدل كتحريم “الزلابية” (حلوى تقليدية تستهلك بشكل كبير في شهر رمضان)، و”الصلامي”، بدعوى دخول مكونات محرمة في تركيبة المنتوجين، بينما كثيرا ما تتطلع الأنظار لفتاوي رجال الدين في قضايا مهمة، لكن عراب السلفية يلتزم الصمت حينها.
وأثار هجوم العناصر السلفية على متصدرة الحملة التضامنية الفنانة نوميديا لزول، ردود فعل قوية لدى نخب أخرى، استهجنت الحملة، ووصفتها بـ”المسعورة”، و”غير المؤسسة”، وشددت على أن “التضامن الحقيقي هو عمل ميداني وليس أدعية تردد أو تنشر على شبكات التواصل الاجتماعي”.
ناشطون سلفيون هاجموا حملة التضامن المفتوحة من نخب صحية وفنية للتكفل بالوضع الوبائي المتدهور في البلاد
وتبقى عقيدة التيار الذي يقسم المجتمع إلى “فئة ناجية من النار” وبين “العموم”، أحد المبادئ الأساسية له، حيث تقتصر علاقاتهم الاجتماعية والتضامنية على المنتسبين له فقط، لكنه يبقى غير منزعج من عزلته الاجتماعية، ما دام يملك ما يطمئنه على ذلك، ويستدلون على ما يقولون إنه حديث نبوي شريف، “جاء الإسلام غريبا وينتهي غريبا، فطوبى للغرباء”، في إشارة للتيار السلفي.
وسرد الكاتب والناشط الثقافي عبدالرزاق بوكبة، حادثة في هذا الصدد، مع أحد منتسبي التيار المذكور، فقال في تدوينة على فيسبوك، “اقتحم علي المسنجر، فسألني من غير أن يحييني: ألا تقول كلمة حق؟ قلت: هل ترى منشوراتي تقول الباطل وتثني على أهله؟، فرد: لكنك لم تعلق على ما فعلت المسماة نوميديا لزول! قلت: هذا صحيح. لقد استغلّت شهرتها ونفوذها الجماهيري، وشرعت في جمع التبرعات لأجل المحتاجين إلى الأكسيجين، فتمكنت كمرحلة أولى من جمع 100 ألف أورو”.
وأضاف مخاطبا إياه “كنت أنوي أن أكتب مثمّنا لمبادرتها وجهدها. فقال: هل أفهم منك أنك راضٍ عنها؟ قلت: طبعا. ألا ترى أننا في محنة كبيرة تتعلق بموت الناس. ولا بد أن يتحرك نجوم المجتمع في كل القطاعات مستغلين نجوميتهم للمساعدة في تجاوز تجليات المحنة. ما قيمة النجومية إذا لم تستغلّ في خدمة الصالح العام؟ هل كان النجم سيصير نجما لولا الجماهير؟ إذن فليرد لهم الفضل، بتبني همومهم وهواجسهم وحاجاتهم وأصواتهم. فأجاب: لكنها لا تمثل المجتمع الجزائري في هيئتها وتفكيرها وسلوكها! فبأي حق تصبح نجمة تتصدر مشهد الفعل الخيري؟ فقلت: هل أنت بصدد خطبتها عروسا لك حتى تراعي هيئتها؟ ذاك أمر يتعلق بحريتها الشخصية، وما يعنينا كونها تولت حملة خيرية لشراء أجهزة التنفس في ظرف صارت حياة الناس فيه متعلقة بها، فاستفد من سوقها وتجاوز ساقيها”.
وتابع “فقال: هذا تشجيع على الفسق! قلت: لنفرض أن الأمر كذلك، فأنت آخر من يحقّ له أن يتصدى له، ماذا فعلت أنت الذي ترى نفسك صالحا للمجتمع في واحد من أخطر مفاصله؟ هل دعوت إلى حملة شبيهة؟ قال: لكنني لست مؤثرا. فأجبت: افعل على مستوى ما هو متاح لك. فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها. على مستوى بيتك، عمارتك، حيّك. على مستوى حسابك الفيسبوكي.. مالي أراه عاطلا إلا من بعض الأدعية الجاهزة”؟
ويُعد هذا وجها من أوجه الجدل الأيديولوجي القائم في الجزائر بين إسلاميي التيار السلفي وبين نخب ثقافية وفنية ورياضية، والذي يتجدد من حين لآخر، في أحد تجليات الفجوة المنتفخة داخل المجتمع، وإلى القطيعة المستفحلة بين القوى الإيجابية وبين إسلاميين يختصرون القيم الدينية في سلوكيات ومظاهر سطحية أو رغبة في التفرد.
وإذ يولي الإخوان أهمية قصوى للنشاط الاجتماعي والعمل الدعوي، لما له من تأثير في استقطاب الفئات المسحوقة، فإن للتيار الآخر رأي يكرس حالة من الانغلاق، وحتى وضع تصنيفات جاهزة للتيارات المختلفة داخل المجتمع، ولذلك لا يروقهم بروز قوى مخالفة لتوجههم، فيحاولون فرملتها بأحكام دينية مفصلة حسب أهوائهم.