ما الذي حدث للثقة بالنفس في الجزائر؟

الصراف

ضاقت الأرض بالجزائر، فلم تعثر إلا على تركيا لتقيم امتدادات سياسية معها. لا يوجد تفسير آخر للشغف الرسمي الجزائري برجب طيّب أردوغان. وبالرغم من أن المظاهر يمكنها أن تقول إن المؤسستين السياسيتين التركية والجزائرية مختلفان في كل شيء، إلا أن طبائع الاستبداد المشتركة هي التي تفتح أبواب التفاهم.

أردوغان إخواني. ويقود حزبا إسلاميا من النوع الذي سبق له أن هدد الاستقرار في الجزائر، إلا أنه رئيس دولة جنرالات في النهاية. وها هنا يكمن المفتاح. الجنرالات لديهم أيديولوجية واحدة. يمكنها أن تلبس أي ثوب، إلا أنها واحدة. ولكن، كمثل التراتبية العسكرية، فليس كل جنرال، جنرال فعلا. بعضهم أعلى مقاما من الآخر.

في الجغرافيا الموضعية، تبدو الجزائر وكأنها تعيش وسط حلقة مغلقة. هناك أزمة في ليبيا، وأخرى في تونس سببهما إخوان أردوغان وحلفاؤه. كما أن هناك إرهابا في الجنوب، هو الآخر من ثمار الإسلام السياسي. أما المغرب، فإنه حتى ولو مد يد التعاون، فإنها لن تُقبل منه، في حالة استعداء تستعصي على الفهم، إلا في إطار المناكفة والنكاية. وهذه شؤون لا علاقة لها بالسياسة. إنها شؤون علاقة مع النفس.

من أجل 5 مليارات دولار الجزائر تبيع نفسها لأردوغان، وتتحمل إهاناته، وتجيز له أن يتدخل في شؤون ليبيا وتونس وتجعل من أرضها ممرا لمصالحه مع القارة الأفريقية، من دون جمارك

الجنرالات عادة ما يحتاجون عدوا لكي يبرروا فيه نزعاتهم التسلطية، وإنفاقهم العسكري، وهيمنتهم على الحياة السياسية، ونشر الخوف في المجتمع.

ويحاول جنرالات المؤسسة العسكرية الجزائرية أن يجعلوا من المغرب هو ذلك العدو، حتى ولو كانت الدوافع واهية والاتهامات باطلة. وعلى الرغم من أن أردوغان والأردوغانية وما تناثر على أطرافها من منظمات إرهاب، كان يفترض أن تجعل الجزائر أبعد ما تكون عن التقارب مع تركيا، إلا أنها مثل “القط الذي يحب خنّاقه”، لم تلجأ إلا إليه. لكي تناكف نفسها بالدرجة الأولى.

ليست قضية الصحراء المغربية بين الجزائر والمغرب، هي العلة. هذا مجرد وهم مُبالغ فيه. القضية الصحراوية انتهت منذ العام 1975. ولا يزال التوصل إلى حل عقلاني لبقاياها أمرا ممكنا.

وفي الواقع، فإنه حتى وإن جاز الافتراض بأنها قضية عالقة، فإن آخر ما يمكن أن يُعقل هو أن تبقى مصالح الجيرة بين الدولتين عالقة لنصف قرن. وهي مصالح من الضخامة بحيث لا يجوز، أمام المنطق على الأقل، أن تُسترخص بقضية ثانوية. ذلك لأنها شيء من قبيل أن يرهن شعبان مصيريهما أمام نزاع تكفل الزمن بحله.

شيء من انحراف عصيب هو ما يدفع الجزائر إلى أن تتنكر لأواصر الجيرة مع المغرب وليبيا وتونس، بينما تفتح أبوابها لمشروع أردوغان الاستعماري في المنطقة.

وهذا ليس مجرد انحراف في الرؤية. إنه دلالة على مشاعر ضعف، وقبول بالإهانة أيضا. وهو ما لا يليق ببلد بحجم ومكانة وقدرات الجزائر.

في مقابلة مع مجلة “لوبوان” الفرنسية قال الرئيس عبدالمجيد تبون إن بلاده “تتمتع بعلاقات ممتازة مع الأتراك الذين استثمروا قرابة 5 مليارات دولار دون أي مطالب سياسية مقابل ذلك”.

من أجل 5 مليارات دولار “دون مطالب سياسية” تبيع الجزائر نفسها لأردوغان، وتتحمل إهاناته، وتجيز له أن يتدخل في شؤون ليبيا وتونس وتجعل من أرضها ممرا لمصالحه مع القارة الأفريقية، من دون جمارك!

ضاقت الأرض بالجزائر

أهذا معقول بالنسبة لبلد بحجم الجزائر؟ وكم بقي من قيمتها، إذا كانت تبيع جوارها في مقابل ألا يتدخل أردوغان في شؤونها السياسية؟

خلال زيارته للجزائر في يناير 2020 حمل فريق أردوغان الأمني كلاب حراسته معه لتفتيش القاعات التي تعقد فيها اجتماعات الفرق التي رافقته في الزيارة.

لم يفعل ذلك لأنه لا يثق بقدرات الأمن الجزائري على حمايته، ولكنه أراد أن يُبلغ جنرالات الجزائر أنه هو اليد العليا في أعز ما يتحكمون به؛ أراد أن يهينهم في أرضهم.

ويرسل أردوغان، من الطرف الآخر للمتوسط، بمرتزقته إلى ليبيا، ويريد أن يستعمرها بشركاته وجيشه وميليشيات إخوانه، بينما لا تجرؤ الجزائر أن تلعب الدور المأمول منها كجار لليبيا. لا تجرؤ أن تلعب دورا لضمان استقراره لخدمة مصالحها الخاصة هي نفسها.

أفهل هذه جزائر؟ ما الذي حدث للثقة بالنفس؟ ثم ما الذي حدث لعلاقات الأخوة بين البلدين الجارين لكي تسمح لتركيا بأن تحمل أسلحتها إلى هذا البلد وتستوطنه وتنهبه؟ أفهل يليق بالجزائر أن تكون الطير الذي يوقع أقرانه في شباك الصياد، في مقابل أن يكون حرّا؟ أهذه حرية؟ أم أنها خيانة؟

وتجري الآن مباحثات، قادها وزير خارجية أردوغان في الجزائر لعقد قمة ثلاثية تجمع بين أردوغان وتبون والرئيس التونسي قيس سعيّد.

الغاية الوحيدة من هذه القمة هي محاصرة الرئيس سعيّد والتدخل في شؤون بلاده. الصياد يريد أن يصطاد طيرا آخر بفضل خدمات طائر استمرأ على نفسه خيانة الأخ والجار.

ولماذا يأتي أردوغان لمناقشة شأن لا يخص أحدا غير تونس؟ ولماذا تساعده الجزائر في أن يتدخل في شؤون بلد جار؟ ولماذا لا تتدخل الجزائر لخدمة مصالحها في تونس، لحسابها هي، بدلا من أن تكون وكيلا لمصالح طرف ثالث؟

الطير الذي يشتري حريته بالسماح للصياد أن يرسل مرتزقته وشباكه إلى دول أخرى في الجوار، إنما يرتكب جريمة بحق نفسه

الوجه الحقيقي للمسألة هو أن هذا البلد العزيز، الثائر، الحر، لم يعد عزيزا ولا ثائرا ولا حرا. وهو لم يخسر ثقته بنفسه، إلا عندما خسر نفسه كلها، تحت وطأة أزمات لم يعرف سبيلا للخروج منها، وتحت وطأة انحراف في الرؤية يجعله يمارس مناكفات ونكايات سياسية ليس مع جار مثل المغرب، بل ومع نفسه أيضا.

والمناكفات مع النفس هي الأساس الذي وفر لجنرالات الجزائر أن يحققوا نصرا على شعبهم.

المؤسسة السياسية الجزائرية تعرف كيف تفوز في الانتخابات بأقل من 20 في المئة من الناخبين، وتتمسك بها نكاية بالـ80 الآخرين. ولكنها لا تعرف كيف تقول لأردوغان، إن ما تتدخل به في تونس وليبيا يضر بمصالحنا نحن، ويشعل النيران في أرضنا نحن.

لم تجرؤ المؤسسة السياسية الجزائرية على ذلك. ولكن هل تعرف لماذا؟ لأن الجزائر لم يعد لها مع مصالح مع أحد. مارست القطيعة مع شمال أفريقيا كله لتنعزل ويستفرد جنرالاتها بشعبهم، ويحاصروه، من دون أن يقدموا له خيرا.

ما هو جذري، في العلاقة بين المغرب والجزائر، هو أنهما قوتان كبيرتان، وهناك أسس لتوافق المصالح، كما أن هناك مشاريع مشتركة يمكنها أن تدفع بتبادلاتهما التجارية وشراكتهما في مجالات التنمية إلى تحقيق مكاسب اقتصادية كبرى، توازي مئات المليارات من الدولارات، بل ربما أكثر.

ولعل آخر ما يمكن لهذه المصالح أن تصل إليه هو أن تترك وراءها شروطا سياسية أو تدخلات في الشؤون الخاصة. والحال نفسه يمكن أن ينطبق على الشراكات الممكنة للجزائر مع ليبيا وتونس. ولطالما رأت هذه البلدان الأربعة نفسها بلدا واحدا.

فإذا كانت 5 مليارات استثمارات تركية هي ما يملأ العين، فإنها ثمن بخس، لتدمير مكانة الجزائر في إقليمها الخاص.

الطير الذي يشتري حريته بالسماح للصياد أن يرسل مرتزقته وشباكه إلى دول أخرى في الجوار، إنما يرتكب جريمة بحق نفسه. ولكن عندما تضيع الثقة بالنفس، يمكن حتى لبلد عزيز، ثائر، وحر، أن يتحول عاجزا وذليلا وتفتش قاعاته كلابُ حراسةٍ يجلبها أردوغان معه، ليقول لجنرالاته إنه هو الأعلى.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: