جريمة أيديولوجية وسياسية تضع الجزائر على حافة الفوضى

البليدي

الجزائريون ينتظرون بشغف شديد نتائج التحقيقات الرسمية حول الجريمة البشعة التي تمثلت في التنكيل بشاب متطوع في ذروة أزمة حرائق الغابات وحرقه وقتله، والتي تثير المخاوف من إثارة اضطرابات وفوضى داخلية عميقة.

استلهم الجناة الذين اغتالوا الشاب المتطوع جمال بن إسماعيل في بلدة “الأربعاء ناث إيراثن” بمحافظة تيزي وزو الجزائرية جريمتهم من وحشية تنظيم الدولة الإسلامية، بل كانوا أكثر فظاعة بعد ممارسة الحرق والسحل والتنكيل والذبح.

ولئن كانت رسالة تنظيم الدولة الإسلامية وعقيدته صريحتين فإن هؤلاء الجناة نفذوا جريمة أيديولوجية وسياسية وضعت الجزائر برمتها على أعتاب حرب أهلية. وما زالت الألغاز ونقاط الاستفهام تحيط بالجريمة المروعة التي هزت الشارع الجزائري وأدت إلى استحضار تسعينات القرن الماضي.

وعلى الرغم من المعلومات التي رشحت من طرف المحققين والإفادات التي قدمها بعض المشتبه فيهم، تبقى القراءات متضاربة بسبب تداخل المستفيدين من الجريمة وكثرة المنفذين وتدفق الروايات وبروز معالم توجيه وتوظيف سياسيّيْن.

وبدا أن هناك تخطيطا مسبقا للجريمة بعد وجود عناصر مشتبه فيهم من عشر محافظات في مكان وقوعها حسب مصدر قضائي. وشارك في الجريمة، التي وقع ضحيتها في فخ غادر، عناصر ذوو مكانة اجتماعية مرموقة من بينهم الجامعي المتخصص في الشريعة الإسلامية والمحامي والممرضة والصيدلي، بالإضافة إلى حضور وسيلة إعلامية إلكترونية سجلت مع الضحية تصريحا قبل الحادثة.

توقيف أكثر من 60 مشتبها فيه، وتجري ملاحقة العشرات من المطلوبين، حيث تم ضبط بعضهم وهم على وشك امتطاء قوارب الهجرة السرية انطلاقا من وهران

وفيما رفع ناشطون سياسيون معارضون -كالأكاديمي فضيل بومالة- طلبا لتشكيل لجنة تحقيق مستقلة تفاديا لأي تلاعب أو ضغط أو التأثير على مسار الجريمة، يتابع الشارع الجزائري بشغف كبير تطورات عمل مصالح الأمن في القضية التي وضعتها هذه المصالح في صدارة اهتماماتها.وأعلنت المصالح الأمنية عن توقيف أكثر من 60 مشتبها فيه، وتجري ملاحقة العشرات من المطلوبين، حيث تم ضبط بعضهم وهم على وشك امتطاء قوارب الهجرة السرية انطلاقا من وهران، بينما أعيد آخرون كانوا بصدد قطع الحدود إلى المملكة المغربية، وقدمت تفاصيل جديدة الثلاثاء.ودفعت تلك الأمور إلى أن الاهتمام الجماعي لا يرتكز على المنفذين الذين شاهدهم الرأي العام على مواقع التواصل الاجتماعي بقدر ما يرتكز على المدبرين للجريمة والأهداف التي سطرت لها.

وتوجهت بعض أصابع الاتهام إلى حركتي استقلال القبائل “ماك” و”رشاد” المدرجتين من طرف السلطة الجزائرية كمنظمتين إرهابيتين تسعيان لضرب استقرار البلاد.

ويرى البعض أن المسألة لا تتلاءم مع طبيعتهما السياسية على اعتبار أن كليهما يحمل مشروعا يعمل على استقطاب الناس وليس تنفيرهم، إلا أن فرضية اختراقهما تبقى واردة من قبل جهة تعمل على إثارة حرب اثنية في البلاد.

وحتى الجهات التي قادت طيلة العامين الماضيين حملة شيطنة وتشويه ضد منطقة القبائل وسكانها، على اعتبار أنها تشكل الوعاء الرئيسي للحراك الشعبي، لم تسلم من الاتهام. ويُستند في ذلك على تفكيك السلطة مؤخرا لخلايا إلكترونية

كانت تُدعم من طرف ضباط سامين في الجيش، تم توجيه الاتهام لهم بالوقوف وراء حملات التفرقة وتهديد الاستقرار الاجتماعي وتشجيع خطاب الكراهية، وعلى رأس هؤلاء مدير الأمن الداخلي والأمين العام لوزارة الدفاع الوطني، وهما الجنرالان واسيني بوعزة وعبدالحميد غريس.

ثقافة متأصلة

جريمة بشعة

تعد جريمة تيزي وزو غير مسبوقة في تاريخ المجتمع الجزائري ولا يضاهيها إلا ما كانت تفعله الجماعات الإرهابية خلال تسعينات القرن الماضي. وكانت الجريمة أكثر حدة وصدمة بين الجزائريين، حيث اختار الجناة المكان والتوقيت الاستثنائيين وتجردوا من كل صفات الإنسانية شأنهم في ذلك شأن كل من أحاطوا بساحة الجريمة دون أن يحرك واحد منهم ساكنا.

ويرى مختصون أن “العنف في الجزائر ليس نزوة أو حالة عابرة أو استثنائية، بل هو ظاهرة ثقافية واجتماعية وسياسية عميقة، إذ كان لا بد من إدانة العنف والقتل مهما كانت الظروف والدواعي، لكن هل تكفي الإدانة والعقاب؟”.

ويذهب هؤلاء إلى “ضرورة إنتاج ثقافة وقيم متحضرة لوقف ‘طاعون’ العنف المستشري، وأنه لا بد من تغيير جذري في المنظومة التعليمية بكل أنواعها ومستوياتها وتغيير الخطاب الإعلامي والثقافة السياسية الجزائرية التي تنتج العنف الرمزي والمادي معا”.

ويؤكد المختصون أن “العشرية الدموية ظاهرة ثقافية بامتياز، وأنه تم النظر إليها على أنها نتاج خلافات سياسية”. ويرى هؤلاء أن الآثار البشعة للعشرية السوداء ما زالت تحطم المجتمع الجزائري.

التخطيط للجريمة

تقول الباحثة والمختصة في علم النفس فريدة طلحي إن ممارستها في الوسط العقابي تحيلها إلى استنتاج مجموعة من الملاحظات حول جريمة تيزي وزو. وتضيف أن مسار الجريمة يوحي بأن “المجموعة الإجرامية مدربة تدريبا عاليا على المستويين الفردي والجماعي وهو ما يلاحظ عبر تقاسم الأدوار ومعرفة كل فرد منهم ما يقوم به بصفة آلية (واحد خلف السيارة وواحد يسحب الضحية وآخر يبعد الناس، وآخر يصور)”.

وتوضح طلحي أنه “لم يلاحظ أي تداخل في المهام أو مشاورات ولو لثوان بين عناصر المجموعة”، كما ظهرت البنية الجسدية الرياضية للمشتبه فيهم عاملا مشتركا سواء من خلال الإشارة إليهم في التسجيلات أو من خلال الإفادات التي قدمت من طرف البعض.

قواسم مشتركة بين الجناة

  • مجموعة إجرامية مدربة على المستويين الفردي والجماعي
  • أدوار متقاسمة وكل فرد يعرف مهامه
  • الجناة متشابهون جسديّا
  • مؤشرات التخطيط وسبق الإصرار والترصد واضحة في الجريمة
  • سرعة تنفيذ الجريمة تنبئ بأن المجموعة مدربة

وتشير إلى أن عامل التخطيط، مع سبق الإصرار والترصد، يظهر في الجريمة وهو ما يترجمه تحديد مراحل الجريمة وتقسيم أدوار المجرمين في تنفيذ هذه الجريمة.

وتقول “توقيت تنفيذ الجريمة لم يتجاوز ساعة واحدة من الزمن، بينما عادة ما تستغرق جريمة الضرب والتعذيب والقتل والحرق ما بين ثلاث وأربع ساعات كاملة، حتى لو كان الفاعل مجموعة”.

وتعلل المتحدثة ذلك بأنه إذا كان الهدف هو ضرب الضحية فقط ليموت بين يدي الجناة فستفكر المجموعة في التخلص منه بعد مشاورات، فيكون الحرق أو بتر الأطراف، وكل هذا يستغرق وقتا أطول، وكلما زاد وقت الجريمة نقص عامل التخطيط والترصد، والعكس صحيح. وهنا يظهر الترصد من خلال تسلسل الأفعال بمراحل متتالية (محاصرة سيارة الشرطة، الاعتداء بالضرب، سحل الضحية، إبعاد الناس عنه باستمرار، تنكيل، فحرق فذبح).

وتابعت “الملاحظ أيضا هو برودة الأعصاب والتلقائية والتسلسل في الفعل الإجرامي، وغياب عنصر الدهشة أو التوتر من قبل المجموعة الفاعلة، مما يوحي باحتمال كبير مفاده أن الجماعة ليست هذه جريمتها الأولى فهي متعودة على ذلك والدليل هو الاحترافية والتسلسل. ولا يستبعد تنفيذ هؤلاء لجرائم أخرى”.

ولفتت إلى أن تنفيذ الجريمة وبثها بكل أريحية أمام الرأي العام يوحيان بأن المجموعة تريد تبليغ رسالة، وأنها لا تشعر بالقلق ولا حتى الانزعاج، كأنها متأكدة من ملاذ آمن لها حتى ولو كان داخل السجون.

وتقول إن “مراحل الجريمة وتطبيقاتها توحي بأن المجموعة لا تحمل في ذهنها شيئا يدعى سلطة القانون أو الدولة، وأن الشعارات التي رافقت الجريمة تترجم التكوين النفسي والاجتماعي والثقافي والعقائدي المنحرف، وليس الدافع السياسي أو التاريخي الذي يحاول المجرم وجماعته الأيديولوجية إضفاءه على الجريمة”.

وعن مجيء العشرات من الأشخاص إلى مسرح الجريمة، دون تسجيل ردود فعل طبيعية كالتفاجؤ والدهشة والصراخ والبكاء وحتى الانهيار أو محاولة منع الجريمة، خاصة لدى الأطفال والمراهقين والنساء، ترى المختصة النفسية أن العكس هو الذي حصل وتم وسط صور وهتافات وتشجيع للمجرمين.

وفسرت ذلك بـ”حمل هؤلاء لنفس التركيبة النفسية والثقافية العقائدية المنحرفة التي تحملها المجموعة الإجرامية، وهم أناس ميالون للفعل الإجرامي من هذا النوع في أي وقت، وأن حضور أطفال ومراهقين يوحي بأن ما يتلقاه هؤلاء من تربية وتكوين نفسي وبناء فكري عقائدي هو نفسه ما تم تلقينه للمجرم القائم بالفعل”.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: