مرت ثمانية أشهر كاملة بالتمام والكمال على انتخابه رئيسا للجزائر، إلا أن عبدالمجيد تبون لا يزال حبيس أسوار قصر المرادية، لم يره الشارع ولا أنصاره في الميدان، فقدماه لم تطآ أي مشروع أو محافظة أو منطقة لحد الآن، حتى في أحلك الظروف المأساوية التي تعرفها البلاد مؤخرا، فما بالك بتفقد أو معاينة برنامج سياسي على الأرض.
ولا يزال الرجل يختصر ظهوره للرأي العام في سلسلة لقاءات مفصلة على المقاس، بدعوة صحافيين أو ثلاثة إلى مكتبه في قصر المرادية، لتناول مختلف القضايا والملفات، وإذ اعتبرت الخطوة في بادئ الأمر مؤشرا إيجابيا على انفتاح غير مسبوق على الأقل خلال العقود الأخيرة، على الإعلام المحلي، إلا أن تكرارها ودخولها في تقاليد مؤسسة الرئاسة جعلها مجرد روتين دوري لا غير.
لقد كان الرئيس السابق اليمين زروال في ذروة العشرية الدموية، ينظم كل ستة أشهر ندوة صحافية مفتوحة لعموم وسائل الإعلام، ودون برمجة أو توجيه مسبق، للرد على أسئلة الصحافيين التي تترجم الاهتمامات المختلفة للرأي العام، وجاء بوتفليقة، وأغلق جميع الأبواب بنرجسيته على الإعلام المحلي، وفوق ذلك لم يتحرج بأن يكون رئيس تحرير الوكالة الرسمية والتلفزيون الحكومي.
حلم الجزائريين بالتغيير مؤجل إلى إشعار آخر، لأن السلطة الجديدة لا تحمل إلا مجرد حبر على ورق، وليست أفكارا أو تصورات على الأرض
وإذ استبشر المتابعون خيرا بانتداب تبون للفريق الإعلامي الذي كان معه خلال الحملة الانتخابية، ليكوّن به طاقم مديرية الإعلام، وتسمية الإعلامي المخضرم والسياسي محمد سعيد أوبلعيد كوزير دولة ناطق باسم الرئاسة، فإن خرجات الرجل انتهت في الغالب بالفشل ودارت حولها موجات من التعليق والانتقاد، وظهر أن الخطوة هي وسيلة وليست غاية يراد بلوغها لتوظيف الإعلام في المرحلة الجديدة.
فالوزير الناطق أوبلعيد اختفى عن الأنظار منذ عدة أشهر بسبب إصابته بوعكة صحية، والفريق الإعلامي غرق في عملية التحضير والتوجيه والتسجيل والتركيب على جلسات الرئيس الإعلامية، فكان المفعول عكسيا على الهدف المنتظر منها، ولم يستطع الرجل إقناع حتى أنصاره بالبرنامج الذي تعهد به أمامهم خلال حملته الانتخابية.
ولا يزال ظهور الرئيس يأتي دائما كرد فعل من هرم السلطة على الأحداث والتطورات، ولم تبرز أي مبادرة توحي إلى أنه يحمل في حقيبته ما يحمل الجزائريين على الأمل والانتظار، فهو إلى جانب أنه معتكف في قصر المرادية، لم يقدم ولا حصيلة ولو أولية لثمانية أشهر من العمل.
وتأكد مع مرور الوقت أنه حتى النمط الجديد لا يشكل جزءا من برنامج تبون، بل هو مجرد وسيلة مستجدة لإدارة شؤون البلاد، فالخطوة لم تخضع للمراجعة رغم مفعولها العكسي على خطاب السلطة، ولم يفكر هؤلاء في تقديم نقاش الرئيس مع إعلاميين، في جو مريح دون عرق يتصبب على جباههم، أو تحرير الأنفاس لطرح أسئلة جادة ومقاطعات، على الأقل من أجل إقناع الرأي العام بأن الرئيس بصدد تجسيد انفتاح إعلامي في برنامجه.
وبدل وضع التعهدات التي قطعها على نفسه على الأرض والشروع في تجسيدها، وجد الرجل نفسه يؤدي مهام المسؤولين الذين نصبهم بنفسه، بداية من رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة والمحافظين.. وغيرهم، وبدل طرح التصورات التي يحملها برنامجه للتنفيذ، ضاع في متاهات السيولة، والزيت، والحليب، والماء، وأكسجين المستشفيات، والحرائق.. وغيرها.
صحيح أن الرئيس تبون هو أسوأ الرؤساء حظا في الجزائر، فهو إلى جانب أنه واقع تحت ضغط سيل يومي من محتوى شبكات التواصل الاجتماعي، لم تسعفه الظروف الداخلية والخارجية حتى بالاعتدال في جلسته، فثمانية أشهر من حكمه، ضاعت منها ثلاثة في وعكة صحية ورحلة علاج، وشهران بعد اعتلاء قصر المرادية اجتاحت كورونا البلاد، وفوق ذلك الأزمة الاقتصادية والمالية تخنق البلاد، والعائدات في تناقص والاحتياطي في تآكل.
لكن كان بإمكان الرجل أن يعكس الهجوم لصالحه بالنزول إلى الشارع والالتقاء بمواطنيه. والسلطة التي لم تحترم التباعد الصحي خلال تنظيم استحقاقات وحملات انتخابية، يمكن أيضا أن تختصر المسافة بين رئيس الدولة وشعبه، فمن غير المنطقي، أن تشتعل البلاد بهذا الشكل ويسقط أكثر من 70 ضحية، ورئيس الجمهورية معتكف في مكتبه.
لقد كانت الجزائر خلال العشرية الدموية في ظروف اقتصادية ومالية أسوأ بكثير مما هي عليه الآن، لكن الإدارة الإعلامية الناجعة للوضع عبأت الرأي العام خلف مقاربة الخروج من الأزمة الدموية، وكان وزير الإعلام السابق عبدالعزيز رحابي على رأس القاطرة التي اختصرت النشرة الرئيسية في التلفزيون الحكومي إلى نصف ساعة، وأعادت ترتيب الأولويات حسب مقتضيات المهنة، لقناعة لدى هؤلاء بأن الصراحة هي مفتاح كسب ثقة الشارع، وقول الحقيقة هي مقدمة لأي برنامج سياسي ناجح.
لكن محيط الرئيس تبون، إما أنه يريد حجب الحقيقة عليه لحاجة في نفس يعقوب، أو أنه ليس في مستوى التحديات التي تمر بها البلاد، لأنه بهذه السيرورة صار هو المعطل الأول لبرنامج الرئيس الموجود إلى حد الآن على الورق فقط، ولم يظهر له أي أثر على الأرض.
وكما يردد القول المأثور “ذنبه في نحره”، فإن البرنامج المفترض يبقى معلقا على رقاب هؤلاء، وهو الذي اشتكى منهم في جلسة علنية، عندما اعترف أن “منحة العاملين في قطاع الصحة، والتعويضات التي أقرها شخصيا لمختلف الفئات الاجتماعية في إطار مواجهة آثار وباء كورونا، لم تصل إلى أصحابها بسبب البيروقراطية”، لكن الثابت أن الرجل لم يحدث “الديكليك” اللازم في أوصال المؤسسات من أجل الالتفاف حول تنفيذ برنامجه.
والرئيس الذي يريد بعث اقتصاد رقمي، وجد نفسه في نفس المتاهة التي انطلق منها، فقد مرت أشهر على تعهده بعدم قطع شبكة الإنترنت في البلاد وإصلاح المنظومة المصرفية، لاسيما خلال الامتحانات الدراسية، لكن دار لقمان لا زالت على حالها، فقد قطعت الحكومة الإنترنت خلال الامتحانات الأخيرة، ووضع الرجل في حالة لا يحسد عليها أمام الجزائريين.
وكما في الاقتصاد والزراعة والسياحة والخدمات.. وغيرها، يستمر الشلل في مؤسسات الدولة، وباستثناء نشاط الجيش في الميدان، ودور الأمن في خنق كل أشكال المعارضة للسلطة، فإن التعهدات الـ54 التي قدمها خلال حملته الانتخابية هي حبر على ورق إلى حد الآن، ولولا ثروة النفط ومكتنزات الاحتياطي لصارت البلاد على أعتاب التسول.
لقد حمل عبء شعار “الجزائر الجديدة”، لكن الثابت أن “الخشب القديم لا يصنع سفينة جديدة”، لأن الرجل لا يزال وفيا بالأفكار والممارسات للعهد القديم، وأن حلم الجزائريين بالتغيير مؤجل إلى إشعار آخر، لأن السلطة الجديدة لا تحمل إلا مجرد حبر على ورق، وليست أفكارا أو تصورات على الأرض.