من يظن أن زمن العبودية والرق قد ولّى فهو خاطئ، ففي الجزائر اتخذ استغلال العمال أشكالا جديدة تتمثل في شركات المناولة التي تنتهك حقوق عمال الحراسة والتنظيف والفندقة والبستنة حيث تتم معاملتهم بطريقة قاسية بلغت حد الإهانة والابتزاز أمام أعين السلطات التي تحمي أصحاب هذه الشركات.
يسود إجماع لدى الفاعلين في سوق الشغل بجنوب الجزائر على أن شركات المناولة هي سوق عصرية للرقيق، يتم فيه التربح الفظيع على حساب الشباب الباحث عن فرص عمل، وفيها تنتهك حقوق العمالة برعاية القانون وبإيعاز لوبيات نافذة تتحوز على صفقات التشغيل مع الشركات النفطية، بينما لا يستفيد أصحاب الحظ إلا من جزء يسير مقابل عرقهم، الذي يبذلونه في ظروف مناخية صعبة.
وأكد الناشط المدني مولاي محمد رقاني بأن “الحديث عن سوق للرقيق في جنوب البلاد، ليس بالأمر المفاجئ ولا الغريب، لأن ممارسات شركات المناولة القائمة على الاحتيال والابتزاز وهضم حقوق العمال، تكرس ذلك”.
وأضاف أن “أصحاب شركات المناولة هم الأرباب الجدد، الذين فصّل القانون على مقاسهم، وانتظموا في شركات المناولة، مستفيدين في ذلك من نفوذهم ومن الحماية في مراكز القرار، لتحقيق أرباح خيالية على حساب العمال المقهورين الباحثين عن فرص شغل تخرجهم من طائلة البطالة، رغم أنهم يعلمون بأنهم ضحايا سوق منظمة للرق الحديث”.
وذكر في تدوينة له على حسابه الخاص في فيسبوك بأن “شركات المناولة في الجنوب هي أسواق للرقيق، ولو أنها تختلف عن تلك التي قرأنا عنها في بطون الكتب القديمة”.
وتابع “شركات المناولة في الصحراء أغلبها شركات للحراسة والأمن والإطعام والفندقة والبستنة، ظهرت خلال العشرية السوداء بحجة تقديم خبراتها الأمنية والخدمية لِكُبرى المؤسسات الاقتصادية النشطة بالجنوب كسوناطراك، سونلغاز، إينافور، إيناجيو، أوناسبي، أو آن تي بي، وجي تي بي… وغيرها.
وفي معرض حديثه ذكر بأنه يملك خبرة طويلة مع مشوار التشغيل وشركات المناولة، فهي بؤر للتحايل والابتزاز وهضم حقوق الناس، وحتى الفرص والمناصب المحترمة عادة ما تذهب إلى أصحاب الوساطات والنفوذ، بينما تنظم المسابقات لشباب الجنوب بغية ذر الرماد في العيون، والإفلات من طائلة خطاب السلطة.
وأضاف “تقبض شركات المناولة مبالغ ضخمة لا تنزل عن الألف دولار أميركي مقابل العامل الواحد، لكن أجرة الأخير تتراوح بين 300 و400 دولار في ظروف مناخية وجغرافية صعبة خاصة في فصل الصيف، وفوق هذا لا يمكن لذلك العامل أن يثبت على راتب معين، فليس غريبا أن يجد نفسه في هذا الشهر أو ذاك بلا مدخول سوى (قهوة وسجائر) ولا يجد من يفسر له الأمر، لأن إدارة الشركة تقع غالبا في العاصمة، ومن يصل إلى العاصمة أو يكلم رؤساء هذه الشركات؟”.
وجاء في مدونته بأن “عصابات الدولة البائدة، فصّلت قوانين تحمي شركات المناولة من تهم النهب والسلب، فيحدث أن تتعاقد شركة ما مع المؤسسة الأصلية مقابل ضمان أمنها وحراستها بـ100 عون للحراسة ـ على سبيل المثال ـ يتقاضى صاحب شركة المناولة ألف دولار أميركي عن كل عون، ويمنح منها راتبا للعون في حدود 400 دولار، ويحتفظ بالباقي في جيبه، أي ما يقدّر بـ60 ألف دولار شهريا”.
ويضيف “لم يبق إلا أن يضعوا القيود في أيدي البشر الذين يتاجرون بعرقهم وجهدهم ، والأدهى والأمر أن العامل القادم من ولايات أخرى مرسّم في سوناطراك يتناول في غذائه وعشائه ما لذ وطاب في مطاعم الشركة، بينما العامل في شركات المناولة يتفرج بعينيه”، ويتساءل “ما المانع أن توظف المؤسسة الأصلية أعوان الحراسة بدل هذا الوسيط المسمى شركة مناولة؟”.
ويتابع “كنا نظن أن العبيد قد تحرروا جميعا، ولم يبق على وجه الأرض إنسان يباع ويُشترى، لكن في حاسي الرمل، وحاسي مسعود، وعين أميناس، جانت، أوهانت، حوض بركين، تيڨنتورين، وأدرار، لا يزال الرجل يباع ويشترى بين شركات المناولة تحت حجج واهية وواهنة”، وهي المناطق التي تحتضن شركات نفطية وغازية حكومية وأجنبية، وتتعامل في الغالب مع شركات مناولة لتشغيل اليد العاملة.
ويذكر الرقاني في تدوينته بأن “العبودية تعود في القرن الحادي والعشرين تحت أنظار السلط المختصة والتشريعات الناظمة “، وتساءل “هل في الجزائر الجديدة رجال شرفاء يقطعون دابر المؤسسات المناولة بقرار حاسم؟ لكن من سيضع حدا للوبيات تعودت على دخل شهري بنصف مليون دولار؟”.
وتعود ملكية شركات المناولة، خاصة الأمنية منها في الغالب لضباط سامين من المؤسسة العسكرية بعد إحالتهم على التقاعد، وهو ما ترك امتدادا للنفوذ والمصالح بين الأطراف الفاعلة في سوق الشغل بجنوب البلاد.
وذهب الرقاني الى أبعد من ذلك، لمّا كشف عن شيوع الرشوة والمحسوبية في مختلف المجالات، وعن تغلغل اللوبيات النافذة، خاصة عصابات الاتجار بالبشر المستفيدة من الجغرافيا ومن التضاريس المشتركة مع دول الجوار.
وكان تقرير محلي قد تحدث عن تلقى العشرات من عمال بعض شركات المناولة التي تتعامل مع شركة سوناطراك، صدمة كبيرة بعدما تلقوا رواتبهم منقوصة ومُقتطعا منها بشكل كبير، بل وصل راتب البعض منهم إلى حوالي 50 دولارا أميركيا.
وذكر بأن “نصف عمال بعض شركات المناولة المختصة في الفندقة والإطعام أدخلوا في عطلة إجبارية استثنائية بسبب الظروف التي فرضها وباء كورونا، ومع توقف المواصلات وغيرها من الإجراءات، أين اضطروا للبقاء في بيوتهم لشهر آخر، فكان أن تلقوا رواتبهم منخفضة بشكل كبير، وهذا ما أثار استياء العمال وغضبهم، واعتبروه إجحافا في حقهم، خاصة أنهم في هذه الظروف الصعبة”.
ورغم أن الوضع أثار لغطا كبيرا في البلاد، بعد دخوله أروقة البرلمان السابق، غير أن شهود عيان أكدوا على استمراره كما كان، وشددوا على أن المسألة في حاجة الى إرادة سياسية قوية، تبدأ من “الرؤوس المدبرة الى الأذرع المنفذة”.