لم يكن جراح العظام عبدالرحمن بن بوزيد، الذي قضى مشواره المهني في المشافي الحكومية ومصحته الخاصة، يتوقّع أنه سيكون وزيرا في يوم ما لولا الخدمة التي قدّمها لأحد أقرباء عبدالمجيد تبون قبل أن يكون رئيسا للدولة الجزائرية، فرُدّ إليه الجميل بأكثر مما كان يتصور، لكن ثقة مسؤول ليست بالضرورة هي ذاتها ثقة شعب كامل أو حتى جزء منه، لأن الأزمة الصحية المستجدة في البلاد وضعت الرجل على فوهة مدفع ومحل انتقادات شديدة قد يكون ثمنها رأسه.
فشل وزير الصحة بن بوزيد في إقناع الجزائريين أو طمأنتهم بشأن الأزمة الصحية التي عصفت بالبلاد خلال الأسابيع الأخيرة بعد تفشي المتحور دلتا بشكل كبير والذي انكشفت معه عيوب القطاع المغضوب عليه، والذي عادة ما يوصف بالقول “قطاع الصحة المريض في حاجة لمن يداويه”.
بن بوزيد يُشهد له بأنه أحد الكفاءات الجزائرية في مجال تخصصه (جراحة العظام)، وأنه لم يكن يتوانى عن معالجة الفقراء والمعدمين والحالات المستعصية حسب روايات متعددة، لكن المتحور دلتا دفع به إلى واجهة لا يتحمل مسؤوليتها لوحده، لأن معضلة القطاع الصحي في الجزائر تعود إلى سنوات سابقة وإلى تراكمات كثيرة.
ويبدو أن الوزير الجراح، الذي تذوق بمرور الوقت لذّات المسؤولية، ما انفك ينخرط في خطاب خشبي سرعان ما انكشف أمام الرأي العام في أول أزمة صحية تشهدها البلاد، وبات يردد نفس المفردات والشعارات التي حشرته هذه الأيام في زاوية ضيقة قد تخنق أنفاسه من أجل تلطيف حالة الغضب المتفاقم في البلاد.
انهيار منظومة
هذا القطاع ابتلي بمسؤولين لا نظير لهم في الكذب والتعتيم، كما يقول الجزائريون، فقد سبق لسلف بن بوزيد عبدالمالك بوضياف، المتواجد في السجن حاليا، أن صرح بأن “بلاده تتوفر على مشاف كتلك المتواجدة في أوروبا والولايات المتحدة، وأنها ستصدر قريبا 11 دواء إلى اليابان وألمانيا وأفريقيا”، وسقط الوزير وسجن مع سقوط بوتفليقة، لكن الدعاية السياسية لا زالت تخيم على القطاع.
بدوره كان الرئيس تبون قد صرح بأن “بلاده تتوفر على أكبر وأحسن منظومة صحية في المنطقة وفي أفريقيا عموما”، لكن لم تمر أسابيع قليلة حتى نُقل إلى ألمانيا للعلاج من وعكة صحية أصيب بها، وينتظر أن يعود إليها لمراجعة حالته خلال الأسابيع القادمة، ليطرح المزيد من الاستفهامات عن المستفيد من هكذا خطاب وهكذا دعاية لا مبرّر لها. ولأن شبكات التواصل الاجتماعي هزمت وسائل الإعلام بمختلف أنواعها الحكومي والخاص، فإنه بات على الوزير بن بوزيد أن يخرج إلى العلن ويخاطب الرأي العام لتقديم رسائل طمأنة للشارع الجزائري المنهك معنويا وذهنيا وصحيا جراء الجائحة خاصة خلال الأسابيع الأخيرة، لكن يا ليته ما نطق فقد انقلب عليه كل شيء صرح به.
أما الحكومة التي تنفق المليارات من الدينارات على الإعلام المذكور من أجل صناعة محتوى يوجه الرأي العام، فقد هزمتها تسجيلات ومنشورات بسيطة على شبكات التواصل الاجتماعي. وكانت المصداقية هي الفيصل في إدارة المعركة الإعلامية، بين إعلام تقليدي فاشل وإعلام مواطني صادق، لأن انكشاف الحقيقة زاد من خوف السلطة، فدفعت بوزيرها إلى الواجهة، لكن الفارق كان شاسعا بين جراح العظام البارع وبين الوزير المسيس.
الاعتذار الذي قدمه الوزير للمتضررين من الجائحة الصحية جاء ثقيلا على لسانه، فقد ربطه بما أسماه “خطأ القطاع في حقهم”، بينما الغاضبون يتحدثون عن “فشل حكومة” و”انهيار منظومة” ترجمتها أزمة الأكسجين التي أحدثت لغطا كبيرا وكانت وراء تسجيل عدد من الوفيات لأشخاص قضوا بضيق التنفس وليس بفايروس كوفيد – 19.
وإذ أبان التضامن الشعبي قيما إنسانية راقية في المجتمع، بعد ظهور نسوة يتبرعن بحليّهن وأطفال بحصالاتهم ومواطنون باعوا سياراتهم ومنازلهم من أجل المساهمة في اقتناء مكثفات الأكسجين، فإن المسألة أبانت في الجانب الآخر ضعف القطاع وهشاشته، وعرّت خطاب السلطة، لاسيما بعد توجيه قنصليات في أوروبا نداءات للمهاجرين من أجل التبرع لإنقاذ الوضع الصحي في الداخل.
حالة التضامن الاجتماعي الحالية تعيد سيناريو مماثلاً عاشته الجزائر غداة الاستقلال حين وجهت القيادة السياسية آنذاك نداء للجزائريين من أجل التبرع لتكوين خزينة للدولة، فأقبلت النساء على صندوق التضامن وقدمن ما يملكن من حلي بسيطة، لتتمكن الحكومة من سك الدينار لأول مرة كعملة وطنية
وأعاد سيناريو التضامن الحالي سيناريو مماثلاً عاشته الجزائر غداة الاستقلال، لما وجهت القيادة السياسية آنذاك نداء للجزائريين من أجل التبرع لتكوين خزينة للدولة، فأقبل الرجال والنساء على صندوق التضامن وقدموا ما يملكون، بما فيها حلي بسيطة، وبذلك تمكنت الحكومة من سك الدينار لأول مرة كعملة وطنية، لكن الوضع يختلف بحسب متابعين لأن التبرع آنذاك كان سلوكا اجتماعيا من أجل بناء الدولة الحديثة، بينما التضامن الحالي أقر بوجود شعب وغياب الحكومة.
ومع ذلك لم يكن الوزير جريئا لفرض موقفه على الحكومة أو إقناع المؤسسات الأخرى بالطابع الاستثنائي من أجل أن تسحب تدابيرها الإدارية والبيروقراطية
في وجه الهبة التضامنية، لأن وزارة المالية والجمارك والجباية لا تزال تتمسك بتطبيق الرسوم الجمركية والضريبة على المعدات المذكورة، مما أعطى الانطباع بأن الحكومة غير مستعدة للتضامن مع شعبها.
الوزير بدا بعيدا كل البعد عن الطبيب حين صرح بأن دائرته الوزارية “فوجئت بانتشار المتحور دلتا بهذا الشكل”، لأنه لا منطق الطبيب ولا منطق المسير يمكن أن
يهضم مثل هذا الكلام، فالتسليم بالمفاجأة يمكن أن يكون لدى البسطاء أو البعيدين عن الاختصاص، وأما الطبيب والوزير فهما الأولى باستشراف التطورات ووضع الاستعدادات وتسخير الإمكانيات اللازمة.
وفوق ذلك لم يوضح بن بوزيد الأسباب الحقيقية وراء تأخر عملية التلقيح، ولا تلك التي أدت الى انتشار المتحور دلتا، فالجزائر أحصت إلى حد الآن حوالي 3.5 مليون ملقح وهو معدل ضعيف مقارنة حتى بدول الجوار، لأنه لا يمثل سوى حوالي 7 في المئة من الجزائريين البالغ تعدادهم 45 مليون نسمة حسب آخر الإحصائيات، وهو ربما فشل آخر على مستوى القطاعات الوزارية الأخرى المطالبة بتعبئة جهودها لتوفير اللقاح في الوقت المناسب، والذي عمل الوزير على تفادي التطرق إليه لارتباطه بتوازنات أخرى.
وزارة للصحة خارج الجزائر
الجائحة بدأت في الانتشار في شهر مارس 2020، وتم الإعلان عن غلق كلي للحدود الجوية والبرية والبحرية، وعاشت الجالية ظروفا اجتماعية مأساوية نتيجة انقاطاعها
عن أهلها ومصالحها إلى غاية الأسابيع الأخيرة أين تم تنفيذ فتح جزئي للأجواء، لكن كل المتحورات دخلت البلاد، بما فيها دلتا الخطير، ولم يقدم بن بوزيد مواكبة مقنعة للأمر، ولو أن دوائر متابعة ترى بأن بقاء الحدود مفتوحة في وجه العمالة والشركاء الأجانب بمن فيهم الهنود هو السبب الراجح لتفشي العدوى الأخيرة.
وكما أحصى الجزائريون موتاهم بحزن مشحون بالغضب، فإن “الجيش الأبيض” أحصى موتاه أيضا، حيث فقد نحو 250 طبيبا منذ بداية الجائحة أمام أعين رفيقهم وزميلهم الجراح الذي اختار المنصب في القطاع الصعب وفي التوقيت الأصعب، فوقعت التركة
كلها على كاهله، وفوق ذلك فإن افتقاده لملكة التواصل والبديهة كلفه الكثير وشحن الجميع ضده، حتى بات رأسه المطلوب الأول للشارع الجزائري وحتى للعاملين
في الصحة. بن بوزيد اختار الانخراط في خطاب السلطة والتسيير السياسي للأزمة الصحية، فكان أول المحذرين مما أسماه في أحد تصريحاته بـ”التهويل” و”التضخيم”، و”صناعة الرعب المهدد للاستقرار الاجتماعي”، لكن للمواطن رأيا آخر في الموضوع، فلا العقوبات ولا الملاحقات القضائية أثنت ناشطين ومتطوعين عن نقل ما يصفونه بـ”الحقيقة المؤلمة والانهيار المريع للمنظومة الصحية”.
وباستثناء طمأنته للجزائريين بوفرة اللقاح خلال الأسابيع الجارية حيث ينتظر تحضير تسعة ملايين جرعة من أجل ضمان استمرار العملية، والوصول إلى دخول اجتماعي أكثر طمأنينة، فإن الوزير أخفق في باقي الرسائل التي وجهها للرأي العام مما زاد من حدة الغضب وفقدان الثقة في الرجل المفترض للمرحلة.
الإصلاح اللامتناهي
وزير الصحة الجزائري لم يشعر بالحرج أمام الرأي العام حين ذكر بأن “الأولوية في الأكسجين للحالات العادية وليست للحالات المستعصية”، مما أعطى الانطباع لمتابعيه بأن الحكومة مستعدة للتضحية بأصحاب الحالات المعقدة إذا لم تكف كمية الأكسجين
كان بن بوزيد كمن أطلق على رأسه رصاصة، حيث حاول إنكار أزمة الأكسجين وبرر الوضع بـ”ارتفاع الاستهلاك بسبب تزايد أعداد المرضى”، وعزا اللغط المتصاعد إلى ضغط التوزيع وليس إلى نقص المادة. ولم يشعر بالحرج أمام الرأي العام حين ذكر بأن “الأولوية في الأكسجين للحالات العادية وليست للحالات المستعصية”، مما أعطى الانطباع لمتابعيه بأن الحكومة مستعدة للتضحية بأصحاب الحالات المعقدة إذا لم تكف كمية الأكسجين، فانفجر غضب الجزائريين المنهمكين في حملات تضامن واسعة لاقتناء مكثفات المادة المذكورة وتثبيتها في المشافي الحكومية.
وظهر أن الوزارة التي يديرها جراح عظام ليست حتى في مستوى بقالة بسيطة في شارع معزول بإمكان مسيّرها استشراف العرض والطلب على المواد الغذائية والبضائع الرائجة والراكدة، ما دام أنها فوجئت بالموجة الثالثة التي حذر منها العالم وعاشتها دول الجوار قبل أشهر، لكن يبدو أن الوزارة تعيش في عالم آخر غير عالم الجائحة.
واكتفى بن بوزيد بالقول إن الوضع مقلق وخطير، لكن يتوجب التحلي بالصبر والهدوء، وأضاف “بفضل العمل الجبار الذي تقوم به المؤسسات الاستشفائية والمجتمع المدني من أجل توفير مادة الأكسجين، وبفضل الهبة التضامنية للمواطنين الذين بادروا بأموالهم وسواعدهم سواء لاقتناء هذه المادة أو لإنتاجها سنتمكن من تجاوز الوضع”.
قطاع الصحة الجزائري الموروث عن الزمن الاشتراكي وعن شعارات العلاج المجاني صار مريضا وفي حاجة إلى جراحين كبار لاستئصال الأورام المتراكمة، وأي رهان للسلطة على ردم الهوة بينها وبين الشارع يبدأ من هذا القطاع، فهو في حاجة إلى رجل بمواهب ومؤهلات خلاقة، يبدو أنها لا تتوفر في عبدالرحمن بن بوزيد.
وأوّل تلك الأورام هو التسيير السياسي للقطاع، فقد مر عقدان على تسميتها بـ”وزارة الصحة وإصلاح المستشفيات”، لكن لا أحد في الجزائر بإمكانه معرفة متى ينتهي ذلك الإصلاح، ولا حصيلة عقدين من الإصلاح لم ينتجا إلا الفشل والوزراء الفاشلين.