ماذا وراء دعوة الملك محمد السادس الجزائر لفتح الحدود؟

تليدي

شيء غير مألوف في خطاب الملك، أن يخصص وقتا طويلا للعلاقات المغربية الجزائرية، وأن يأتي حجج الجزائر لتبرير الإبقاء على الوضع كما هو، ويفندها، ويبعث بخطاب الأمل والثقة لطي صفحة الخلاف بين البلدين. فعادة خطاب العرش، أن يخصص لتقييم سنة كاملة، بمؤشراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن يتضمن التوجهات الكبرى للمرحلة القادمة.
في سنة 2008 وجه الملك في خطابه للعرش نداء إلى حكام الجزائر يدعوهم إلى فتح الحدود وإقامة شراكة حقيقية بين البلدين، وتوجيه جهودهما للتنمية والتكامل بدل إهدارها في النزاعات. وفي سنة 2018 دعا إلى آلية ثنائية للحوار المغربي الجزائري.
الجزائر ظلت طوال هذه المدة تستمسك بشروطها، وأنها لن تقدم على أي خطوة في هذا الاتجاه ما لم يعتذر المغرب عن اتهامه للجزائر بالضلوع في أحداث أطلس إسني 1994، فضلا عن تكرار شروط تتعلق بالتحديات الأمنية التي تزعم الجزائر أن تصدر من شرق المغرب.
خطاب الملك ودعوته لفتح الحدود كانت هذه المرة مختلفة، فقد حرص على التعاطي المباشر مع حجج الجزائر التي يبرر بها حكامها الاستمرار في الوضع الراهن.
الملك أتى على حجة الاعتذار، وذكر بأن غلق الحدود بحيثياتها المعروفة، تنتمي لفترة سابقة عنه، فلا هو، ولا الرئيس الحالي للجزائر، ولا رئيسها السابق، يعتبرون مسؤولين عن تدبير هذه المرحلة. حجة الأضرار والأخطار وإغراق الجزائر بالشرور (المخدرات) التي يتذرع حكام الجزائر بأنها السبب الحقيقي وراء إغلاق الحدود، أتى عليها الملك، وبين بأن المغرب لن يكون أبدا مصدر شر للجزائر، وأن أمن الجزائر من أمن المغرب، وأن أي ضرر يلحق بالجزائر هو يضر المغرب. الملك خطا خطوة متقدمة إليها لتبديد مخاوف الجزائر، وذلك حين حذر من مخاطر المناوشات الإعلامية والدبلوماسية بين البلدين في المحافل الدولية، معطيا مؤشرا ثقة بأن استخدام ورقة الشعب القبايلي في تقرير المصير ليس لحد الآن خيارا رسميا للدولة، وأن الدبلوماسية المغربية، فعلت ذلك من باب الرد على الاستفزاز الجزائري ليس إلا.
ما من شك أن النخب العليا في الحكم في الجزائر تفاجأت كثيرا لمضمون الخطاب، وتفاجأت أكثر للحجم الذي أخذته الجزائر فيه، وربما كانت مفاجأتها أكبر من إصرار الملك على الاحتكاك المباشر بحججها وتفنيدها، مع استعمال لغة دبلوماسية راقية.
بعض وسائل الإعلام الجزائرية، ربما أصابها بعض الغرور، وظنت أن المغرب في حاجة ماسة للجزائر، وأن الدور الجزائري سيتعاظم في المنطقة في المدى القصير المنتظر، وأن المغرب يعيش أزمة خانقة، بعد توترات دبلوماسية مع إسبانيا وألمانيا، وبعد غضب باريس منه بسبب اتهامات له بالتجسس على هواتف مسؤولين فرنسيين منهم الرئيس إمانويل ماكرون، وأن الجزائر أضحت اليوم مفتاح أزمته ! في المقابل، فوجئت بعض وسائل الإعلام المغربية من دعوة الملك، فالمؤشرات كانت تدفع نحو استمرار التوتر مع الجزائر لاسيما بعد ضلوعها في توتير العلاقة بين الرباط ومدريد، وانخراطها الرسمي في تعزيز رواية بيغاسوس، ومحاولة خلق توتر بين الرباط وباريس. والحقيقة أن فهم دلالات دعوة الملك، يتوقف على معرفة تقييم الرباط لوضعية الجزائر اليوم، وهل لا تزال تملك الخيارات نفسها للإبقاء على الوضعية المأزومة بين البلدين، أم أن وضعيتها تفرض عليها تغيير مقاربتها إن كانت تنظر بجدية إلى مصالحها الحيوية العليا؟ التقدير أن ثمة تقييما مغربيا، يعتبر أن الجزائر قد وصلت إلى مرحلة نقص شديد في الخيارات، وأن مصالحها الاستراتيجية باتت مهددة من كل جانب، وأن البحث عن عدو خارجي (المغرب) لن يكون مخرجا في المرحلة القادمة.

ملك المغرب، اختار التوقيت المناسب، واختار اللغة المناسبة، واختار قبل هذا وذاك، الحجم المناسب للحديث عن فرصة تاريخية، ما من شك أن حكام الجزائر هذه المرة، سيعطونها العناية الكاملة

ورقة دعم البوليساريو فقدت عمقها الجيوستراتيجي منذ تأمين معبر الكركرات، ونجاح المغرب في استقطاب الدول الكبرى للاستثمار في العمق الإفريقي عبر بوابته، أحرق هذه الورقة تماما، فلم تنجح محاولات الجزائر للامتداد في العمق الإفريقي عبر بواباتها.
دبلوماسيا، دخلت ورقة الدعم الحقوقي لجبهة البوليساريو في مأزق خطير، لاسيما بعد التوتر المغربي الألماني من جهة والتوتر المغربي الإسباني من جهة أخرى، فأوروبا، التي كانت تعتبر الرئة التي يتنفس منها النسيج الجمعوي الانفصالي، أصبحت تتحسس مصالحها مع المغرب، بعد أن جعلت الرباط من قضية الصحراء محددا أساسيا علاقاتها الدبلوماسية.
دبلوماسية المغرب نحو إفريقيا، ودبلوماسية القنصليات في الأقاليم الجنوبية ضيقت الخناق على الجزائر، وزادت من عزلتها، وأفقدتها جزءا مهما من دورها التاريخي بالقارة السمراء. الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء، أبطل عددا من أوراق الاعتماد التي كانت تلجأ إليها الجزائر لإعادة التوازن في الصراع.
الاتفاق الثلاثي للرباط، ينظر إليه من قبل حكام الجزائر بأنه محاولة لتقريب التهديدات الجدية إلى الجزائر، وذلك ما يفسر تعاظم لغة التحذير من المؤامرات التي تستهدف زعزعة أمن واستقرار الجزائر في الشهور القليلة الماضية. ما زكى هذه التخوفات هو دخول الإمارات إلى المنطقة، واشتغالها الكثيف على إنجاح الانقلاب في تونس، والتمكين للجنرال خليفة حفتر في ليبيا، وإفساد مسار من التسوية التي يوشك أن ينشئ البيت الليبي بمؤسساته ويطوي صفحة الخلاف والنزاع بين الفرقاء الليبيين. العلاقات الجزائرية الإسبانية، ليست مبشرة، فالتوتر الإسباني المغربي يوشك أن يعصف باتفاق تزويد الجزائر بإسبانيا بالغاز عبر التراب المغربي، فتجميد المغرب لهذا الاتفاق يعني دخول الجزائر في أزمة، لاسيما وأن تعويض الخط المار بالمغرب باستعمال خط الجزائر ألميرية، تتهدده مخاطر كثيرة، بحكم طول المسافة، وصعوبة تأمين الصيانة لهذه الأنانيب. الوضع الداخلي في الجزائر، لا يبعث على التفاؤل، فمؤشرات الأزمة السياسية لا تزال قائمة، والشروط الاقتصادية والاجتماعية في أسوأ أحوالها، وثمة تحذير من عجز النظام الصحي عن مواجهة موجة متحور دلتا. لحد الآن، تحركات الجزائر لمواجهة التحديات الداخلية لا تتعدى الاحتياط الأمني، في حين تبقى تحركاتها لمواجهة التحديات الخارجية جد محدودة، فثمة من جهة محاولة لمحاصرة وجود إسرائيل في الاتحاد الإفريقي، وثمة في المقابل، وساطة سريعة بين مصر وإثيوبيا على خلاف سد النهضة. الجزائر، لم تخطط لهذه الوساطة، ولكنها اضطرت إليها بعد أن تأكدت من ضلوع مصر في انقلاب الرئيس قيس سعيد على المسار الديمقراطي في تونس، وهي تريد من ذلك استقبال ضمانات من مصر بعدم تحول التطورات في تونس إلى زعزعة استقرار الجزائر. التغيير الذي حصل على رأس مؤسسة الدرك الوطني، تكشف هوس حكام الجزائر من إمكانية اختراق المؤسسة الأمنية والعسكرية.
الجزائر تدرك أن الثقة بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ليست خيارا مأمونا، فمحددات الأمن القومي المصري، تختلف تماما عن تلك المحددات التي تحكم نظر حكام الجزائر لأمنهم القومي، وأن وساطة الجزائر في سد النهضة، لن يساعد بالمطلق على جعل الرؤيتين متطابقتين، بخلاف الرؤيتين المغربية الجزائرية، فهما متطابقتان، على الأقل بالنظر إلى المخاطر التي تهدد المنطقة في حالة ما إذا تم إفشال مسار التسوية بليبيا.
ملك المغرب، اختار التوقيت المناسب، واختار اللغة المناسبة، واختار قبل هذا وذاك، الحجم المناسب للحديث عن فرصة تاريخية، ما من شك أن حكام الجزائر هذه المرة، سيعطونها العناية الكاملة للدراسة، قبل الخروج بأي رد فعل غير مدروس.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: