أبان خطاب الإخوان في الجزائر عن مواقف مزدوجة، تعكس القدرة على التلون إلى درجة التحلل في مختلف الوضعيات، فمنطق أولوية المصلحة والتكيف مع الضرورات وصل إلى درجة انكشاف المناورات المتتابعة، الأمر الذي يبرّر فقدان الثقة المستمر في هذا التيار الذي بات عبئا على أصحابه قبل أن يكون عبئا على شعوبهم.
كانت حركة مجتمع السلم وجبهة العدالة والتنمية، وبدرجة أقل حركة البناء الوطني، أول المسارعين للإعلان عن مواقفهم من التطورات التي شهدها هرم السلطة في تونس، حيث أجمعت حركة “حمس”، وحركة عبد الله جاب الله، على انتقاد ما قام به الرئيس التونسي قيس سعيد، ووصفاه بـ”الانقلاب”، وبـ”المسار الذي يفتح على تونس أبواب الفتنة وعدم الاستقرار”.
بينما كان موقف عبدالقادر بن قرينة، أقل حدة وأكثر توازنا، ليس في إطار مراجعة سياسية في أدبيات أحد الأذرع الاخوانية، وإنما تعبيرا عن المزيد من التماهي مع توجهات السلطة، لمّا عبر بالقول “موقف حركة البناء الوطني يكون منسجما مع الموقف الرسمي للسلطة الرسمية في البلاد”.
لكن الإخوان في الجزائر والذين أحسوا بالتفاف الحبل على رقبة أكبر الأذرع الإخوانية في المنطقة، لهم رأي آخر تماما عندما تعلق الأمر بالتطورات التي شهدتها الجزائر منذ مطلع تسعينات القرن الماضي إلى غاية اليوم، فبينما استهجنوا ما قام به قيس سعيد في تونس، وسارعوا لنصرة حركة النهضة، يمارسون علاقة حميمة مع نظام بلادهم ويشاركونه خياراته منذ إلغاء المسار الانتخابي الذي اكتسحه رفاق لهم في تيار الإسلام السياسي، إلى غاية اليوم.
ولا زال الرأي العام في الجزائر، يتذكر انخراط القياديين عبدالقادر بن قرينة وعبدالمجيد مناصرة في المجلس الانتقالي الذي استحدثته السلطة المؤقتة عام 1992 لتعويض البرلمان الملغى، لكنهم يعتبرون قرارات قيس سعيد، بتجميد عمل البرلمان التونسي ورفع الحصانة عن نوابه، انقلابا سياسيا يهدد تونس بالفتنة.
براغماتية الإخوان في الجزائر بلغت درجة عالية من التحلل إلى أن صارت مكشوفة من كل الجهات وأمام الجميع بمن فيهم الناخب البسيط الذي غازلوه مرة تحت عنوان الدين ومرة تحت عنوان الاستفادة من ميزة اجتماعية، فانقلب عليهم وتهاوى وعاؤهم الانتخابي إلى نحو 300 ألف صوت، من بين أكثر من 24 مليون ناخب جزائري مدون في اللوائح الانتخابية.
كانت السلطة الجزائرية مطلع تسعينات القرن في مأزق سياسي حقيقي بسبب تدخل الجيش لإلغاء مسار انتخابي وبرلمان وحكومة على وشك التشكل، لكن الإخوان سحبوا البساط من تحت أقدام رفاقهم، واختاروا خندق السلطة بدعوى إنقاذ الجمهورية والاستفادة من كعكة السلطة. لكن، عندما تعلق الأمر برفاق لهم في تركيا أو تونس أو مصر، كان لهم موقف آخر أكثر تشددا وحماسة لخطاب رجالاتهم، فعارضوا ما أطلقوا عليه اسم الانقلاب الفاشل الذي استهدف أردوغان عام 2016، وحذروا مما قام به سعيّد في تونس، وقبلها دعوا سلطات بلادهم للتدخل لدى عبدالفتاح السيسي لوقف تنفيذ أحكام إعدام في حق عدد من الإخوان في مصر.
في الجزائر لا زال رفيق لهم، تحت قبضة أمنية مشددة تمنعه حتى من أداء صلاة الجمعة، وهو القيادي في جبهة الإنقاذ المنحلة، وما زال إسلاميون سجناء قابعين في السجن منذ نحو ثلاثة عقود، لكن لا حركة مجتمع السلم ولا حركة البناء الوطني ولا جبهة العدالة والتنمية، عبرت عن موقف تضامني مع من يقاسمونهم نفس المنشأ والتوجه، بينما تأخذهم الرأفة بآخرين في مصر.
بين براغماتية الداخل وتشدد الخارج يستمر الالتباس في مواقف الإخوان في الجزائر لدرجة أن السياسة الزئبقية باتت تتداخل فيها المسائل الثابتة بالمسائل الظرفية ولا يعرف فيها الثابت من المتحرك
ومنذ نشأة الأحزاب الإخوانية في الجزائر، لم تتأخر يوما عن المشاركة في أيّ استحقاق انتخابي، ورغم ظروف التزوير والتلاعب التي شابت معظمها، خاصة في رئاسيات 1995 وتشريعيات 1997، اختاروا فلسفة المشاركة. ولا زالت حمس ومعها الجزائريون، يتذكرون مقولة المؤسس الراحل محفوظ نحناح، عندما سئل عن سر سكوته عن تزوير الانتخابات الرئاسية لصالح مرشح السلطة حينها الرئيس السابق اليامين زروال، “كنت لا أريد العودة إلى الخلف، والتضحية بالرئاسة أفضل من التضحية بأرواح جديدة”، في إشارة لتركة العشرية الدموية التي تفجرت في 1992.
لكن نفس المرشح الذي أدى دور الأرنب في رئاسيات 1995، رفض ملف ترشحه في رئاسيات 1999، بدعوى عدم مشاركته في ثورة التحرير، إلا أن حمس ابتلعت الأمر وتحولت إلى شريك للسلطة وداعم للرئيس بوتفليقة إلى غاية عام 2011، ورغم انخراطها في خندق المعارضة بعدها ومساهمتها في اشتداد عود المعارضة (2014 – 2017)، إلا أن تشريعيات 2017 أغرت الإخوان، رغم أن الموقف كان بمثابة رصاصة رحمة في جسد مشروع تكتل سياسي معارض.
ولا يذكر المتابعون، موقفا ثابتا للإخوان في الجزائر، سوى التلون مع مختلف الوضعيات المستجدة، لكن تعاطيهم مع السلطات المتعاقبة في بلادهم، لا ينطبق تماما مع يتبنونه عندما يتعلق الأمر بالتطورات الإقليمية، خاصة الأذرع الإخوانية، حيث يبرزون تضامنهم المطلق مع رفاقهم، ومعاداتهم الشديدة للأنظمة القائمة كما حدث مؤخرا مع الرئيس التونسي سعيّد.
وبين براغماتية الداخل وتشدد الخارج يستمر الالتباس في مواقف الإخوان، لدرجة أن السياسة الزئبقية باتت تتداخل فيها المسائل الثابتة بالمسائل الظرفية، ولا يعرف فيها الثابت من المتحرك، غير أن الهدنة القائمة مع السلطة وجنوحهم إلى عدم الصدام معها، لا يعني مراجعة مرجعية، لأن الولاء المطلق لقطب تركيا، والتضامن غير المشروط مع الأذرع الإقليمية يوحي بعكس ذلك.