بعد أربع وعشرين ساعة من فشل دعوتها إلى تجمع شعبي واسع أمام البرلمان غيرت حركة النهضة الإسلامية خطابها كليا وأصدرت الثلاثاء بيانا حثت فيه على الحوار والتضامن وتجنب الاقتتال الداخلي، في موقف يظهر أن التطورات الداخلية والخارجية جاءت صادمة للحركة.
وبدا واضحا أن حركة النهضة ترد على نفسها، فهي الجهة الوحيدة التي دعت أنصارها إلى التجمع للدفاع عن “الشرعية” في وقت كانت فيه جهات سياسية أخرى تحثها على التعقل وعدم جر البلاد إلى فوضى وصدامات بين التونسيين.
وبعد أن اعتبرت قيادات في النهضة الاثنين أن لا حوار قبل عودة المؤسسات، جاء الثلاثاء في بيان للحركة أنها “من أجل الخير للحياة الديمقراطية مستعدة لانتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة ومتزامنة من أجل ضمان حماية المسار الديمقراطي وتجنب كل تأخير من شأنه أن يُستغل كعذر للتمسك بنظام استبدادي”.
وعزت أوساط سياسية تونسية التراجع في موقف النهضة من التصعيد إلى التهدئة والاكتفاء بإصدار البيانات إلى متغيرات سياسية بينها أن رئيس الحكومة المعفى هشام المشيشي ظهر ليعلن أنه على استعداد لتسليم العهدة إلى الشخصيّة التي يختارها الرئيس قيس سعيّد لتشكيل الحكومة الجديدة، في وقت كانت حركة النهضة تراهن على أن المشيشي سيتمسك بمنصبه ويكون إحدى أوراقها في المواجهة مع الرئيس التونسي.
ونأى المشيشي بنفسه عن الصراع وحمّل الحزام السياسي الذي كان يساند حكومته مسؤولية الأزمة. وبدا أن الجميع من حلفاء النهضة يبحث عن خلاص شخصي، فقلب تونس (الشريك الثاني في الحكومة)، عاد على لسان رئيس كتلته أسامة الخليفي ليصوّب موقفه الأول بالتأكيد على أنه يتفهم قرار الرئيس بتجميد البرلمان ورفع الحصانة عن النواب. والأمر نفسه بالنسبة إلى بيان حزب تحيا تونس.
وبشكل مفاجئ ودون بيان رسمي سحبت حركة النهضة أنصارها من محيط البرلمان وأوقفت مسيرة كانت تعدها للاحتجاج على ما تسميه “الانقلاب”. وقالت الأوساط السابقة إن السبب الرئيسي لتراجع النهضة عن خيار التصعيد هو فشل رهانها على الضغوط الخارجية لدفع الرئيس سعيد لمراجعة موقفه، لكن مواقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي صدمت رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي.
وظهر خلال تصريحات دبلوماسيين غربيين تفهم واضح لقرارات الرئيس التونسي مع حث خفيف على ضرورة عودة المؤسسات إلى عملها الاعتيادي بعد المهلة المحددة بشهر.
ويعتقد الإسلاميون أن الرئيس الأميركي جو بايدن حليفهم، وأنه سيتحرك لنجدتهم. لكن وزير الخارجية أنتوني بلينكن اكتفى في اتصال هاتفي مع الرئيس التونسي بكلام عام من نوع “الإبقاء على حوار مفتوح مع جميع اللاعبين السياسيّين والشعب التونسي”.
وقال بيان لوزارة الخارجية الأميركية إن بلينكن “شجّع الرئيس سعيّد على احترام المبادئ الديمقراطيّة وحقوق الإنسان التي تشكّل أساس الحكم في تونس”.
وفي حركة رمزية تستعد الولايات المتحدة لإرسال مليون جرعة من اللقاح ضد كورونا، وفيها رسالة واضحة على أن واشنطن غير معنية بشكاوى الإسلاميين في تونس من قرارات قيس سعيد.
وأعلنت مديرة الديوان الرئاسي في تونس نادية عكاشة أن الولايات المتحدة سترسل مليون جرعة لقاح ضد فايروس كورونا خلال الأسبوع القادم إلى تونس لدعمها في السيطرة على الجائحة.
وجاء موقف الاتحاد الأوروبي بدوره هادئا بالرغم من دعوته إلى عودة نشاط البرلمان، وهو أمر منتظر خاصة أن قيس سعيد قال إن مدة التجميد شهر ليس أكثر.
وقال الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في بيان “ندعو إلى إعادة الاستقرار للمؤسسات في أقرب وقت وإلى استئناف النشاط البرلماني خصوصا واحترام الحقوق الأساسية والامتناع عن كافة أشكال العنف”، مشددا على أن “المحافظة على الديمقراطية واستقرار البلاد أولويات”.
كما استقبل قيس سعيد كلاّ من وزير خارجية الجزائر رمطان العمامرة، ووزير خارجية المغرب ناصر بوريطة. وربط المراقبون الزيارتين برغبة كل من الجزائر والمغرب في دعم مساعي تونس للخروج من الأزمة السياسية واستعادة الدولة لقدرتها على المبادرة من خلال القرارات الأخيرة للرئيس سعيد.
ويعتقد متابعون للشأن التونسي أن الأمور باتت هادئة، وأن قرارات قيس سعيد صارت أمرا واقعا، وأن حركة النهضة ليس أمامها سوى أن تتفاعل مع تلك القرارات حتى لا تجد نفسها في عزلة تامة عن المشهد، خاصة أن أغلب الطبقة السياسية قد اعترفت بأن فشل الحكومة السابقة التي كانت تتحكم فيها النهضة هي المسؤولة عن الأزمة الحادة التي تعيشها البلاد، وأن تجميد البرلمان ووقف عمل الحكومة كانا نتيجة الفوضى العارمة في إدارة شؤون البلاد.
ويرى المتابعون أن الأمر الآن مرتبط بمدى قدرة الرئيس سعيد على تنزيل أفكاره بالسرعة الكافية لإدارة شؤون البلاد في المرحلة الانتقالية، حيث لم يعين بعد رئيسا للحكومة ولم يفصّل خارطة الطريق للخروج من الأزمة.
لكنهم لاحظوا أن رئيس الجمهورية قد قطع خطوات مهمة للحصول على دعم المنظمات الاجتماعية المختلفة وتبديد مخاوف ممثليها بعد إشاعات مختلفة تستهدف ضرب الثقة في المرحلة الجديدة، من ذلك مزاعم بشأن منع رجال أعمال من السفر خارج تونس.
وعقد الرئيس سعيّد الاثنين اجتماعا في قصر قرطاج مع كل من نورالدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، وسمير ماجول رئيس اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، وإبراهيم بودربالة رئيس الهيئة الوطنية للمحامين، وعبدالمجيد الزار رئيس اتحاد الفلاحة والصيد البحري، وراضية الجربي رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة، ونائلة الزغلامي رئيسة جمعية النساء الديمقراطيات.
وقال قيس سعيد إن “الخطر واقع بالنسبة إلى الوضع الاقتصادي والاجتماعي والمرافق العمومية”، وإنه “في العديد من الملفات في كل القطاعات صارت تسير بناء على الولاء لذلك الحزب أو ذاك اللوبي”، مشددا على أن “لا مشكل له مع رجال الأعمال التونسيين”.L