مما لا شك فيه أن الطلاق صدمة كبيرة لكلا الطرفين، وأشد وطأة على الأبناء ويعد لحظة فارقة في عمر العلاقات الأسرية والإنسانية بشكلعام، إذ يترتب عليه إعادة تشكيل وهيكلة العلاقات بعد حدوثه بصورة مختلفة تماما.
ولكن الطلاق ليس بالضرورة نهاية المطاف دائما، فربما تبدأ حياة كلا الطرفين بعده بشكل مغاير، وبطريقة تبهرهما، كأنما تتفجر طاقاتكامنة طمسها الزمن وكثرة الخلافات، نالت من الجميع بلا استثناء.
لا أحبذ الطلاق مطلقا، وأراه هدما لبيت وأسرة، ولا أشجع عليه، ودائما لا أنصح به إلا كحل أخير في حال فشل الحلول الودية الأخرى فيالإصلاح في ما بين الزوجين، بداية من محاولة التفاهم بين الطرفين، مرورا بمحاولة الإصلاح بتدخل عابر للأبناء الكبار دون الخوض فيتفاصيل من الأفضل أن تظل سرية تماما بين الزوجين مهما ضغطت الظروف عليهما حتى تظل العلاقة راقية وإن انتهت؛ بلا إهانات أوتجريح، وبالطبع يون تدخل الأهل مفيدا في الكثير من الأحيان، في حالة وجود عقلاء في الأسرة.
وفي حالة فشل كافة هذه الخطوات يبقى الطلاق حلا باتا لا فرار منه لإنهاء علاقة استحالت ديمومتها واستمرارها.
رغم هذا كله فإذا وقع الطلاق، على المرأة ألا تظل في الخفاء، تسترجع الذكريات وتتجرع آلام التجربة المريرة، وتبكي في عتمة الليل على عمرضائع، ولا أطالب المرأة بالانزواء بعيدا عن الحياة وتدمير جميع علاقاتها بالآخرين بحجة الحزن، ولا أرضى بالطبع بهذا، ولكن عليها طيصفحة الماضي وبداية حياة جديدة بعيدا عن الأحزان، فربما أنجزت طموحا قديما كان يوما ما أحد أهم أحلامها واندثر في زحامالمسؤوليات والالتزامات اليومية، وتاه منها في كثرة التفاصيل والمشاكل الحياتية.
ربما استطاعت اجتياز هذه الفترة سريعا وبدأت في تدشين حلم قديم، مثلما فعلت إحدى صديقاتي التي انفصلت بعد رحلة حياة طويلةأثمرت طفلين ومعاناة بحجم العمر. صديقتي درست القانون قبل الزواج والانشغال بالحياة الأسرية وتحولها إلى ربة منزل، وبعد الطلاقانزوت في الظل بعيدة عن الجميع، حتى حياتها الاجتماعية باتت من الماضي، فلم تجدد في أي علاقة اجتماعية أو تضيف إلى رصيدهاالمعرفي والثقافي، أو حتى تسعى لقراءة كتاب أو رواية أو التواصل مع الأخبار العامة والحياة المحيطة بها حتى ذبلت تماما، تغيرت ضحتهاوسكنت الكآبة والحزن ملامحها وأضحت بلا هدف في الحياة، حتى ستائر منزلها غيرتها إلى اللون البفسجي الحزين، وألوان المقاعد،والوسائد، وغيرت إضاءة البيت إلى المصابيح الخافتة التي تبعث على الشجن وتجذب الذكريات الحزينة، تجلس لساعات على أريكة بلونقاتم تستمع إلى تشكيلة من الأغاني الحزينة، تزيد من تعكير الحالة المزاجية وتبعث على الكدر.
حتى كانت خلال جلسة مع صديقات قديمات، أدلت كل منهن برأيها ورغم أنه كان لكل واحدة رأي مغاير، فقد كانت كلها أراء تبعث علىالتفاؤل وتجديد الأمل في الحياة، وضخ دماء جديدة في شرايين علاقاتها بالآخرين ولكن ظل الرأي الأقرب إلى الصواب وإمكانية التحقيقسريعا هو التحاقها بنقابة المحامين وسرعة استخراج أوراق تؤهلها للعمل في مجال المحاماة والتدرب لدى محام شهير، وبالفعل ما هي إلاأيام قلائل حتى رتبت أوراق حياتها من جديد، ورتبت أوراقها الرسمية، ثم دشنت مشروعها الخاص إلى جانب العمل بالمحاماة، وأصبحتواحدة من محاميات قلائل تتم الاستعانة بآرائهن في البرامج التلفزيونية التي تخاطب المرأة أو تتحدث عنها، لكونها محامية متخصصة فيالقضايا النسائية.
وكان ذلك إلى جانب عملها التطوعي في مجال منظمات المجتمع المدني وقضايا حقوق الإنسان والقضايا النسوية على وجهالخصوص.أصبحت امرأة مختلفة في طريقة تفكيرها وتعاطيها مع كافة مجريات الأحداث حولها، صهرها الحزن والضغط وحولاها إلى كائنفاعل في محيطها، كما تحول النار والضغط الشديدان الفحم إلى ماس.
تحضرني شخصية الكاتبة البريطانية الشهيرة جوان كاثلين رولينغ مؤلفة سلسلة روايات وأفلام هاري بوتر التي تزيد قيمة العلامة التجاريةلمؤلفاتها عن 15 مليار دولار، والتي حولتها أزمة طلاقها وإصرارها على النجاح والتحول من مطلقة مشردة إلى امرأة قوية وأغلى كاتبة فيالعالم.
أتساءل: ماذا لو قتلها الشوق والحنين إلى مطلقها، ماذا لو انزوت بعيدا وماتت وحيدة في منزل ريفي قديم، ألم يمنحها القدر فرصة جديدة،كما أهدانا كاتبة من ذهب. الطلاق نهاية نقطة فاصلة، وبداية طريق جديد.