بوتفليقة وتبون.. جمعهما قصر المرادية وفرقهما كل شيء

بليدي

لا يختلف اثنان، على أن الرئيسين عبدالعزيز بوتفليقة، وعبدالمجيد تبون، ينحدران من نفس مدرسة النظام السياسي الذي أدار شؤون الجزائر منذ الاستقلال إلى غاية الآن، وإذا كانت صفة الأستاذ والتلميذ تنطبق على الرجلين، فإن الفوارق تبدو جلية بين رجلين بين واحد صنع الظروف والآخر هي التي صنعته.

لا زال الجزائريون، والمعارضون للسلطة تحديدا، يتذكرون القسم الغليظ الذي نطق به عبدالمجيد تبون عندما كان وزيرا للإسكان في حكومة بوتفليقة “أقسم بالله العلي العظيم أن برنامج فخامة الرئيس سيستمر وسينفذ”. ويبدو لهؤلاء أن خطابات التغيير وشعارات الإصلاح، هي مجرد ذر للرماد في العيون لا غير، ما دام النظام استطاع الإفلات من فورة الشارع ومن استجماع أجزائه بألوان جديدة.

لكنّ العارفين بشؤون السلطة، يرون بأن بوتفليقة، الذي استطاع الاستمرار في السلطة لعقدين كاملين وكان قاب قوسين أو أدنى من بلوغ ربع قرن في هرمها، وأن المحيط والمرض هما اللذان أسقطاه، ولولاهما لما تمكّن من احتواء الموقف بنفسه لأنه يملك من المؤهلات و”الكاريزما” التي تسمح له بذلك، وهو أمر غير متاح للرئيس تبون، لأسباب موضوعية وخارجية.

إن الحديث عن مقارنة بين بوتفليقة وتبون، هو سير في تقفي الفوارق لأن أوجه الشبه يستحيل العثور عليها، فالأول الذي فاوض صقور الجيش في 1994، وانصرف عنهم دون إذن، وأعاد الكرّة في 1999، كان يدرك خطورة المجازفة، وسيناريو مصير الأيقونة التاريخية محمد بوضياف، الذي قضى رميا بالرصاص على المباشر وفي وضح النهار ذات يونيو 1992، لا زال ماثلا لدى الجزائريين، ولديه تحديدا لأنه يعرف خبايا وصراعات العصب، أما الثاني فقد أفرزته إرادة جنرال عسكري، غادر عالم الأحياء في ظروف غامضة وحساسة هو أحمد قايد صالح.

بوتفليقة فاوض صقور الجيش من أجل قصر المرادية، لما كانت المؤسسة في أوج تماسكها وانضباطها، أما الرئيس تبون فلا زال يستجدي رضا العسكر ويحتمي بهم بدل الاحتماء بالشرعية الشعبية التي انتخبته

بوتفليقة، فاوض صقور الجيش، من أجل قصر المرادية، لمّا كانت المؤسسة في أوج تماسكها وانضباطها، ووظف نقاط الضعف لصالحه، فحلقه كان حينها لا زال يشعر بمرارة طرده من السلطة بعد وفاة الرئيس الراحل هواري بومدين، وكان يدرك أن الصقور يبحثون عن غطاء للإفلات من تلميحات دولية لرؤوسهم بسبب الحرب الأهلية، وأن صميم اللعبة هو كيف “يأكل رؤوسهم قبل أن يأكلوه”، أما الرئيس تبون فلا زال يستجدي رضا العسكر ويحتمي بهم بدل الاحتماء بالشرعية الشعبية التي انتخبته، فهو يهمه ولاء العسكر أكثر مما يهمه رضا الشعب، لكن حظه العاثر أنه جاء في ذروة عدم استقرار داخل المؤسسة، ما يجعل كل الاحتمالات واردة، فوجود 30 جنرالا والعشرات من العقداء والضباط داخل السجون ليس بالأمر الهين.

وإذا كان تبون، قد تخرج من أكبر مدارس إنتاج كوادر الدولة في مختلف القطاعات (المدرسة الوطنية للإدارة)، فإن مساره المهني ارتبط بمهام تقنية بيروقراطية بداية من رئيس دائرة (هيئة حكومية محلية تجمع عدة بلديات)، إلى محافظ (والي)، ثم وزير فرئيس للوزراء ثم رئيسا للجمهورية، فإن بوتفليقة، مناضل تاريخي في ثورة التحرير، فوزير للشباب والرياضة في العشرينات من عمره، فوزير للخارجية، فرئيس للجمهورية، قد خبر الشؤون الدبلوماسية وبنى شبكة علاقات دولية قوية، وعاش عنفوان قوة الجزائر وعاصر كبريات القرارات الداخلية والإقليمية والدولية إن لم يكن من بين صانعيها.

الفوارق بين الرجلين كثيرة فالأول حالفه الحظ منذ قدومه إلى قصر المرادية، فحتى السماء صارت ممطرة بعد سنوات من الجفاف، وأسعار النفط شهدت أزهى فتراتها، بينما أدار الحظ ظهره لتبون، الذي اصطدم بأزمة اقتصادية خانقة كبلت هامش مناورته، وبجائحة صحية عالمية شلت ما تبقى من الاقتصاد المحلي، وحتى السماء أمسكت ماءها، فصارت ثورة عطش تهدد عرشه ليس في الجنوب فقط، بل في العاصمة.

وعكس بوتفليقة، الذي امتلك الحنكة والبداهة والفصاحة، فإن تبون يشبه كثيرا رئيس الجزائر السابق الشاذلي بن جديد، خلال أيامه الأولى، لما كان يتلعثم في قراءة خطبه ويشتهر بأخطائه اللغوية الكثيرة كعدم التفريق بين “التي والذي”، فسكن بوتفليقة التلفزيون والإذاعة، وباتت الشوارع في بعض الأحيان تخلو من المارة لأنها تريد الاستماع إلى رئيسها، بينما أبان تبون عن خلل اتصالي لغوي يخلو من الحجة والجاذبية والاسترسال والطلاقة، بينما كان بوتفليقة يقضي ساعتين يخاطب الناس دون ورقة مكتوبة.

عقدان من حكم بوتفليقة انتهيا بالجزائر إلى تبديد ثروة لن تتكرر أبدا وإلى بلد على حافة الهاوية، لكن تبون الذي لن تتاح له فرصة مماثلة، الأرجح أنه سيغادر قصر المرادية وهي على هذا الحال

ولأن الاتصال أداة من الأدوات الضرورية للحكم، فإن الفوارق في القدرات الذاتية بدت جلية بين الرجلين، وحتى نمط التصريحات المبرمجة المنتهجة من طرف تبون لم تحقق المأمول في إقناع الجزائريين بجدوى الخطاب الجديد للسلطة، بينما استطاع بوتفليقة تجاوز أزمة انسحاب المرشحين الستة في انتخابات 1999 بحملة دعائية بمفرده لمشروع الوئام المدني عبر خطابات وزيارات مكوكية لربوع البلاد تمهيدا لإجراء استفتاء يعيد له شرعيته الشعبية، بينما لا زال تبون، حبيس أسوار المرادية، لم تطأ قدماه أيّ ولاية أو مدينة رغم مرور عام ونصف على انتخابه.

بوتفليقة كسر انسحاب المرشحين الستة في الانتخابات المذكورة، باستفتاء شعبي حول الوئام المدني لاحتواء أزمة الحرب الأهلية، فحقق مشاركة شعبية قوية أعادت له الاعتبار أمام الرأيين العام المحلي والدولي، أما تبون، فقد نظم استفتاء لتعديل الدستور وانتخابات تشريعية، أفضت إلى أن أقلية تقدر بنحو 20 في المئة من الجزائريين هي التي تحكم البلاد، بينما الأغلبية غير معمول بموقفها، فتكرست بذلك أزمة شرعية المؤسسات الجديدة.

وفوق ذلك يبقى الرئيس السابق الرئيس الجزائري الوحيد الذي أزاح سطوة العسكر من السلطة رغم صعوبة العملية وتعقيداتها، فظل رافضا لمنصب رئيس دون صلاحيات كاملة أو منقوصة، وأسقط الرؤوس القوية في الجيش الواحد بعد الآخر، ولو أن المدنية التي أنتجها هي “أوليغارشيا” جديدة تألفت من نخبة سياسية ومالية استأثرت بكل شيء فانفجر الشارع، بينما أعاد تبون، العسكر إلى السلطة وإلى مراكز القرار، وحماهم ببند دستوري يتيح لهم التدخل الصريح في أيّ أزمة سياسية تحصل في البلاد.

ويبقى أن عقدين من حكم بوتفليقة انتهت بالجزائر إلى تبديد ثروة لن تتكرر أبدا (1500 مليار دولار)، وإلى أزمة معقدة ومركبة تجتمع فيها السياسة والاقتصاد والاجتماع المتهالك، وبلد على حافة الهاوية، لكن تبون الذي لن تتاح له فرصة مماثلة، الأرجح أنه سيغادر قصر المرادية وهي على هذا الحال، غير أنه لا يتحمل مسؤولية ذلك، ولا يمكن أن يغرق وأن ينغمس في فساد مماثل، لأنه لم يبق في البلد ما ينهب.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: