تتعرض المؤسسة العسكرية الجزائرية في السنوات الأخيرة إلى هزات عنيفة غير مسبوقة، فيمكن للضابط أن يمسيَ جنرالا ويصبح سجينا، أو أن يصبح جنرالا ويمسي جنديا مجردا من رتبته، أو أن يكون متهما ويغدو بريئا، فخلال سنوات قليلة عرفت المؤسسة تحولات عميقة تحت شعارات الفساد والجدارة، غير أن تصفية الحسابات ومعارك التوازنات لم تكن خافية على أحد.
وقد أدان القضاء العسكري بالناحية العسكرية الأولى في البليدة مؤخراً الجنرال السابق الفار وقائد الناحية العسكرية الرابعة (قسنطينة) بعقوبة 15 عاما سجنا نافذا على خلفية تهمتَي التربح غير المشروع وسوء استغلال الوظيفة، لينضم بذلك الى لائحة الضباط السامين المدانين والمسجونين والفارين.
ويعتبر الجنرال عبدالرزاق الشريف أحد أذرع الرجل القوي داخل المؤسسة العسكرية سابقا الجنرال الراحل أحمد قايد صالح، قبل أن يقرر العام الماضي الفرار إلى الخارج خوفا من انعكاسات الهزات المستمرة في صفوف المؤسسة بسبب التحولات العميقة التي تعيشها منذ العام 2018.
وسبقه إلى نفس المصير بساعات فقط زميله مدير الأمن الداخلي سابقا الجنرال واسيني بوعزة الذي قضت المحكمة العسكرية في حقه بحكم ثقيل تمثل في تجريده من رتبته العسكرية، وتنزيله من جنرال إلى جندي، فضلا عن عقوبات أخرى بالسجن النافذ، لتُستكمل بذلك معالم ظاهرة يتوجب التوقف عندها سواء من حيث دروس وعبر الأقدار، أوعدم فهم لعبة التوازنات والصراعات، خاصة لما تنتهي على يد خصم لا يؤمن بدعوة “ارحموا عزيز قوم ذلّ”.
ومع ذلك أبدى الرجل، بحسب مصادر من المحكمة العسكرية، صموده ومقاومته للأحكام الثقيلة بدعوة هيئة القضاة إلى “تبرئة رفاقه” في المحاكمة وهم ضباط آخرون، لأنهم “كانوا يشتغلون تحت أوامره، كما كان يشتغل هو الآخر تحت أوامر قيادته”، في إشارة إلى القائد السابق للجيش.
العقاب الانتقامي
أعادت قضية العقوبات المتتالية على ضباط كبار في الجيش آخرهم قائد الناحية العسكرية الرابعة، ومدير الأمن الداخلي السابق (الاستخبارات) مسألة لعبة التوازنات داخل المؤسسة العسكرية إلى الواجهة، كون العقوبة غير المسبوقة في تاريخ المؤسسة، وحتى عقوبات السجن الثقيلة ظلت مرتبطة بتصفية حسابات بين الأجنحة النافذة منذ ثمانينات القرن الماضي لما عوقب الجنرال مصطفى بلوصيف بحكم مماثل، حيث كانت القبضة الحديدية في أوج ذروتها بين ما يعرف بضباط جيش التحرير وضباط الطابور الخامس (موالو فرنسا).
وخلال أشهر معدودة تهاوت النواة الصلبة للجناح السابق، وانتهت رموزها إلى القبور في حالة الجنرالين مفتاح صواب وحسان علايمية، أو فرار كما هو الشأن بالنسبة إلى الشريف والغالي بلقصير قائد الدرك سابقا، أو السجن في صورة العديد من الجنرالات والضباط.
فمن رجل ثان في المؤسسة العسكرية برتبة جنرال يضطلع بمهمة الأمن الداخلي ويوجه تعاطي المؤسسة مع الاحتجاجات الشعبية منذ انطلاقتها الى غاية الانتخابات الرئاسية، إلى جندي بسيط يقبع وراء القضبان، مسار يحمل في ثناياه تطورات ربما كتبتها الأقدار، لكنها حددتها لعبة التوازنات السياسية التي لم يفهما الرجل جيدا أو لم يحسن إدراتها فانقلب نفوذه وسطوته إلى مجرد سطور مدونة في وثيقة حكم قضائي.
وبالسقوط الكلي لعرّاب المرحلة السابقة داخل المؤسسة العسكرية، ينتظر سقوط مسؤولين سامين آخرين في السلطتين العسكرية والمدنية، حيث يتهيأ القضاء للنظر في العديد من الملفات المطروحة عليه، تتعلق في الغالب بالفساد المالي والسياسي الذي تورط فيه العديد من الرموز البارزين في السلطة. وفضلا على مسؤولين رسميين سابقين وسياسيين بارزين، لا يستبعد جرجرة عدة وجوه جديدة إلى القضاء على غرار وزراء وولاة ومسؤولين سامين في الإدارة والمؤسسات الرسمية.
شكل السقوط المدوي لأبرز كبار الجنرالات النافذين في المرحلة الأخيرة تحولا لافتا في هرم السلطة الجزائرية قياسا بما يمثلونه من قوة ونفوذ داخل المؤسسة العسكرية والهيئات المدنية، فقد كانوا إلى غاية الانتخابات الرئاسية التي جرت نهاية العام 2019 يمثلون قاطرة تيار داخل العسكر والحكومة والإدارة رفضت دعم عبدالمجيد تبون، ونقل عن بعضهم الانحياز لصالح منافسه الوزير السابق للثقافة عزالدين ميهوبي.
نفوذ يتلاشى
الجنرال بوعزة، على سبيل المثال، ظل يمثل العقل المدبر داخل قيادة الجيش منذ تنحية الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، حيث استقدمه حينها قائد الأركان الراحل الجنرال أحمد قايد صالح لادارة شؤون الأمن الداخلي، ومذاك ظل يوصف بـ”عدو الحراك الشعبي” قياسا بالمناورات التي حاكها من أجل إجهاضه، ومقاربته الأمنية القمعية تجاه الناشطين في صفوفه.
ولا تستبعد تقارير محلية أن يجر هؤلاء وراءهم عددا من المسؤولين الكبار في النظام الجزائري بمن فيهم وزراء وضباط سامون، الأمر الذي سيعيد بقوة مسألة صراع الأجنحة في هرم السلطة، ويثير الاستفهامات حول تفجرها في خضم الظروف الاستثنائية التي تعيشها البلاد جراء تفشي وباء كورونا، وتعميم التضييق على الحريات الفردية والجماعية.
وفيما يسقط جناح قايد صالح تباعا وبشكل مثير، تسجل العودة القوية لجناح الصقور الذين ارتبطت أسماؤهم بمجريات الحرب الأهلية خلال العشرية الدموية، وفوق ذلك جرت تبرئتهم من تهم وأحكام ثقيلة وجهت إليهم خلال سطوة الجناح الساقط، وعلى رأس هؤلاء وزير الدفاع الأسبق الجنرال خالد نزار، ومدير جهاز الاستخبارات المنحل الجنرال توفيق.
فقد سبق لنفس القضاء العسكري أن وجه تهم التخطيط والتآمر على النظام وعلى المؤسسة العسكرية، وحكم على مدير الاستخبارات محمد مدين (الجنرال توفيق) بـ15 عاما سجنا نافذا، وعلى وزير الدفاع الأسبق خالد نزار بـ20 عاما، إلا أن لعبة التوازنات برأت الرجلين وأعادتهما الى مركز القرار ولو من خلف الستار، فغادر توفيق السجن العسكري بالبليدة، وعاد خالد نزار من منفاه الاختياري بإسبانيا على متن طائرة خاصة واستقبل بالتحية الشرفية في مطار بوفاريك العسكري قرب العاصمة، ولم تطأ قدماه عتبة المحكمة حتى لمسح الحكم الصادر في حقه، وتم القيام بذلك بالنيابة عنه.
عودة الصقور
وفي لمح البصر تلاشت خلايا الدعاية الإلكترونية التي أطلقها جناح “الجندي السجين” من أجل الترويج لأجندته السياسية بسبب الصدمة القوية كون سقوط رموزه كان آخر شيء يفكر فيه المتابعون للشأن الجزائري، وحتى المقربون منه.
وكانت الأذرع القوية لبوعزة قد استقطبت عشية الانتخابات الرئاسية قطاعا عريضا من الفعاليات السياسية والشخصيات والأحزاب والمسؤولين الكبار ووسائل الإعلام من أجل تعطيل مسار ترشح عبدالمجيد تبون بتواطئ جيوب إعلامية ورسمية وسياسية، حيث تمت إثارة عدد من الملفات المثبطة لتبون على غرار ملف ابنه خالد الذي كان مسجونا حينها ضمن قضية شحنة المخدرات، وتم توقيف ممول حملته الانتخابية رجل الأعمال عمر عليلات، إلى جانب الضغط على مسؤولين في حملته الانتخابية ودفعهم للاستقالة في ذروة الحملة الانتخابية على غرار الدبلوماسي عبدالله باعلي.
وبدا حينها تعاطف عدد من المسؤولين في السلطة ووزراء وولاة وضباط في المؤسسة العسكرية مع مرشح التجمع الوطني الديمقراطي عزالدين ميهوبي، وهي الأسماء والوجوه التي ينتظر جرجرتها إلى القضاء خلال الأيام القليلة القادمة، حسب روايات متطابقة تذكر بأن رئيس الوزراء السابق نورالدين بدوي سيكون على رأس لائحة طويلة.
الإحصائيات المتداولة تتحدث عن سقوط نحو 15 جنرالا من الموالين لرئيس أركان الجيش السابق، والعشرات من العقداء والضباط الآخرين الذين أزيحوا من مناصبهم تحت مسميات التقاعد وإنهاء المهام أو الإحالة على القضاء
ولا يستبعد العارفون بشؤون السلطة الجزائرية أن تكون التطورات الأخيرة في هرم النظام جولة من جولات الصراع بين الأجنحة النافذة، وأن المعركة مرشحة للتمدد قياسا بمقاومة منتظرة من طرف خلايا يكون الرجل قد زرعها في مفاصل الدولة خلال ذروة قوته أسوة بما جرى مع جناح توفيق الذي يملك موالين في خلايا محسوبة عليه إلى غاية الآن.
وتعرف الجزائر منذ صيف العام 2018 عدم استقرار لافت في مؤسساتها الرسمية بعد اندلاع الحراك الشعبي، خاصة داخل المؤسسة العسكرية، الأمر الذي حوّل حركة التغييرات المفتوحة والمتسارعة مذاك إلى تصفية حسابات بين أركان النظام.
ويكون الغموض الذي لف نهاية بعض الضباط السامين في الجيش أحد تجليات منطق الصعود الخارق والسقوط المدوي لكبار الضباط في المؤسسة العسكرية، تجسّد في عودة البعض ممن كانوا في تقاعد لشغل مناصب سامية، وإحالة بعض آخر وفي توقيت قياسي من نفوذ المنصب إلى برودة ووحشة الزنزانات.
غير أن اللافت في قراءة تطورات المشهد هو السقوط السريع لجناح أحمد قايد صالح بنفس السرعة التي صعد بها إلى واجهة المشهد منذ العام 2018، فالعقوبة المثيرة في حق الذراع اليمنى صاحبتها حملة تطهير واسعة في صفوف الضباط والجنرالات الذين ثبتهم قائد الجيش السابق في مختلف المواقع والمفاصل.
وتذكر إحصائيات متداولة سقوط نحو 15 جنرالا من الموالين لرئيس أركان الجيش السابق، والعشرات من العقداء والضباط الآخرين الذين أزيحوا من مناصبهم تحت مسميات التقاعد وإنهاء المهام أو الإحالة على القضاء.