أكدت تشريعيات يوم 12 يونيو، حقيقة غياب السياسة، وأن الجزائر يسيرها هيكل عظمي يطلق عليه زوراً الإدارة، فقد تأكد أن مؤشر غياب المشاركة في انحدار مستمر، ويفصح أكثر من لغة وبيان أن المشاركة كانت أضعف ما عرفها تاريخ التشريعيات منذ الاستقلال الأول للجزائر عام 1962 بنسبة 23٪ من المشاركة، يؤكد الحَرَاك واقعته التاريخية ليوم 22 فبراير 2019، ويحق له طلب الاستقلال عن النظام السلطوي الساحق للأغلبية.
في الصراع الأخير بين الحراك والسلطة، حاز الحراك 80٪ من نسبة الرفض، بينما حازت السلطة القائمة على أقل من 20٪ من التأييد. وهي نتيجة يدركها كل من أوتي عقل يفهم به لغة الأرقام ويعي مبدأ الأغلبية والأقلية. عندما تكون الأقلية هي التي تَحْكم وتَصِل إلى صياغة تشريعات البلد، معنى ذلك أننا دخلنا فعلا منطق اللامعقول أو العبث السياسي الصارخ، على نمط مسرحيات صموئيل بيكت، التي تغلب على شخوصها اللغة المفارقة للواقع، وتقع في حيز اللامفهوم، وتُعلق الأمر كله على ما سيأتي في المقبل من الأيام. الفرق الوحيد بين عبث السياسة في جزائر الأقلية الساحقة، وأدب اللامعقول، أن في هذا الأخير، لا الأمل ولا الفرج ولا الخلاص يأتي، وليس هناك ما يستدعي الانتظار أو الترقب لما هو سار وسعيد. بينما العبث في سياسة النظام القائم في الجزائر، يصر على أن الحل مقبل حتما، وعلينا بالصبر، حتى يطبق برنامج «السيد الرئيس» الذي جرى تدبيجه وصياغته بعبارات لا تنتمي إلى عالم البيان والمعقول، وإمكانية الفهم، أقلية تريد أن تفهم الأغلبية… قمة الجهل والأمية الأبجدية.
ما ترَسخ في الاستحقاق التشريعي الأخير، أن الانتخابات صارت تعني التعيينات الجديدة، لأن الهيكل العظمي للسلطة، ونقصد الإدارة المركزية مع أجهزتها وهياكلها الأمنية، هي التي رتبت «الانتخابات/التعيينات» وتركت الكتلة الناخبة المضمونة، خاصة في الجنوب، أمر تزكية القوائم المرشحة، وقد تم كل ذلك تحت شعار رئاسي واضح وغير معقول في الوقت نفسه «لا تهم نسبة المشاركة، وكل الذي يهم هو شرعية من يفرزهم الصندوق». وذلك هو عنوان مسرحية «التعيينات» التشريعية الأخيرة، الأصل في المسرحية الجزائرية، أن نسبة المشاركة ضعيفة جدا، إذا ما أضفنا لها هامشا كبيراً من التزوير، وهذا وارد في تفكير المحللين، الذين لم تعد تعنيهم بيانات وتقارير الحكومة، وغياب المنطق، والضروري من اللغة والعقل، هو الذي يفرض على الأغلبية أن تنصاع وتخضع للأقلية، وذلك هو العبث السياسي المفضوح، لكن الوجه العبثي المطلق في الحالة السياسية الجزائرية، أن الأمر ليس مجرد عمل درامي فني يقع في عالم الإبداع والخيال، بل هو تمثيل حقيقي يديره ويدبر فصوله من البداية إلى النهاية هيكل عظمي ثابت، هو الذي يفرخ الأعضاء المحتملين من حزبي جبهة التحرير الوطني ونسخته المزيفة من التجمع الوطني الديمقراطي، والنسبة المكملة له من أحزاب الفُتَات، فقد تبين، بناء على النتائج الأخيرة التي حَصَل عليها حزب الإدارة المركزية وتنويعاته الحزبية، أنه الضامن الأبدي والأمين والثابت للسلطة القائمة وحكمها الدائم. فالإدارة تُقْرَن وتتماهى مع أحزاب الموالاة أبدا وتعبر عنها دائما. فهي الهيكل العظمي الذي لا يفنى، ويبقى يتدثر في المطلق بحزب جبهة التحرير وامتداداته وتنويعاته.
حزب الإدارة ومصالح الأمن، هيكل عظمي، في هياكل الدولة والنظام والحكم، بعيد عن الأمة والمجتمع والشعب، ومن هنا سر خلوده الفاني وسبب وفاته السياسي، فالدولة في الحالة الجزائرية، شخصية غير اعتبارية ولا معنوية، ومن ثم فلا معنى لوفاتها الحقيقية، لأنها من صنف لم يقبل الانهيار التام والفناء الأبدي، لأن مقوماتها من خارجها أيضا، وبمعنى أوضح، أن النظام الحاكم يتمتع بمنسوب شرعي من الاعتبارات الدولية والمجتمع الإنساني، يجب أن تكون الدولة في هذه الحالة كيانا، ولو نوعا من الكينونة، فلم يعد للشرعية الوطنية، زمن غياب الديمقراطية، أي اعتبار أو مكانة سياسية حاسمة، بل نظام الأقلية الساحقة يفرض عبثه كحقيقة سياسية، ولمزيد من التوضيح لمسرحيات العبث السياسي للنظام القائم نصفه في السجن والآخر في السلطة، أن قيادة الأركان مع مصالح الأمن العليا ومن يمثلونهما على صعيد حزب الإدارة والحكم المدني وقراراته، تدرك جيدا أنها في وضع غير شرعي، وأنه لا يحق لها إطلاقا التشريع للأغلبية التي التزمت عدم التصويت والتعبير عن رفضها عن وعي ودراية، بل تترك إصدار حكم عدم الشرعية للنظام المقبل برجالاته ووجوهه الجديدة/القديمة.
على ما رأينا وسمعنا بأن كل الانتخابات كانت مزورة بصور وأشكال لا تصدق، كان آخرها بيع رؤوس القوائم والاستثمار الفاسد في صيغة المحاصصة، والتسديد بالتقسيط اللاحق، ريثما يُجهز المُعَين الجديد على أموال الشعب والأمة.
وبالقياس الشاهد على الغائب، على ما يرى فقهاء الدين، فإن الفعل الفاسد في مسرحية العبث السياسي، لا تلازمها إمكانية المحاكمة والعقوبة، إلا في زمن مقبل لاحق عندما ينصرف أبطال المسرحية، ويحل محلهم أناس آخرون، يكون الأولون قد دبروا أمرهم، أو يكون مصيرهم إلى السجن، كما نلحظ في حالة كل الأمناء العامين لحزب السلطة والنظام والإدارة العامة والدولة، الذي يقبعون في غياهب السجون الرحيمة بهم.
ما يزيد من عبثية الموقف السياسي لحكم الأقلية في الجزائر، أن المرور إلى الحكم والفوز بالانتخابات، يجب أن يمر عبر الدعاية الفاسدة لجبهة التحرير الوطني وضرورة الطعن فيه والنيل من شرفه المفقود في وَحْل السياسة الطائشة، طيش جمال ولد عباس، ذروة أبطال مسرح اللامعقول، يتكلم كفرا ويصمت كفرا.. لا يعرف الصدق والصراحة لا في اليقظة ولا في المنام، عاش شطرا من عمره سجينا مع وقف التنفيذ، في ما يكمل شطره الباقي سجينا مع التنفيذ. وتلك هي مسرحية العبث السياسي في الجزائر، عندما تريد النجاح لجبهة التحرير وأفلاكها الفاسدة، ادعو لها بالفشل والكره، على ما فعل الرئيس ليامين زروال، عندما اشترط حزبا آخر يعيد به تنظيف المجال السياسي، والأمر نفسه بالنسبة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي كَرَه رائحة الجبهة، ونغصت حياته، وملّ من خطابها إلى حد أنه تعالى عنها، وفضّل الانفراد بقوى غير دستورية للحكم، أخيرا، وليس آخرا، الأمين العام «الحالي» الذي ألْغِي ملف تَرَشحه عن الجبهة، كشرط توفر النسبة المضمونة لمواصلة الهيكل العظمي للقيادة العليا الأمنية والمدنية للبلد.. وتلك هي آخر مشاهد مسرحية: «تشريعيات.. الأقلية الساحقة».