معاناة المواطن المغربي من تدهور المنظومة الصحية

العلام

Poeple waering wearing protective masks walk out of the El-Kettar hospital in the Algerian capital Algiers on February 26, 2020. - Algerian authorities announced yesterday the country's first case of the novel coronavirus, in an Italian citizen who arrived in the country on February 17. (Photo by RYAD KRAMDI / AFP)

يتساءل الكثير من المواطنين المغاربة عن الضعف الذي يعرفه القطاع الصحي بالمغرب، ويحاول بعض الساسة تلمس أسباب تدهور الصحة و البحث عن سبل النهوض بصحة المغاربة (نفترض أن هناك محاولة حقيقية لذلك)، لكن من المؤكد أن الأسباب الكامنة وراء معاناة المغاربة في المستشفيات واضحة للعيان ولا تحتاج إلا إلى إرادة سياسية قوية لرفعها وتحسين صحة المواطنين. نحاول من خلال هذه الدراسة تشخيص الوضعية الصحية والتطرق لبعض الأسباب البنيوية التي نرى أنها يجب أن تحضى بالأولوية في المعالجة:

على المستوى السياسي

يجب على الحكومة المغربية إعطاء العناية اللازمة لقطاع الصحة والكف عن مسلسل الزج بصحة المغاربة نحو كماشة الخوصصة ولامواطنية جزء من القطاع الخاص، فمن أجل الحفاظ على الصحة العمومية لابد من تغيير السياسات المعتمدة وعدم النظر إلى القطاع الصحي باعتباره قطاعا غير منتج أو يشكل عبئا على ميزانية الدولة. إذ أن العناية بصحة المواطن حق لهذا الأخير من جهة، وتهم تحسين ظروف عيش الإنسان من أجل تحقيق التنمية البشرية، التي لا يمكنها أن تتحقق بمواطنين أعِلاٌء.

و يستدعي هذا الأمر من صناع القرار في المغرب رصد ميزانية مهمة للقطاع الصحي، فقانون المالية لسنة 2012 خصص 2700 مليار سنتيم للجيش و 1750 مليار سنتيم لوزارة الداخلية، بينما لم يخصص لوزارة الصحة، التي شرعت في تطبيق نظام المساعدة الطبية، إلا 1000 مليار سنتيم، وهذا الوضع لن يسهم إلا في إنتاج مواطن عليل غير قادر على النهوض بأعباء النهضة والتنمية. إذ لا يتجاوز التمويل العمومي لوزارة الصحة 5% من ميزانية الدولة، (1.43 من الناتج الداخلي الخام) أما النفقات الصحية لكل مواطن فهي 230 دولارا للفرد في المغرب (مقابل 500 في تونس، و400 دولار في الجزائر).

على مستوى التنظيمي

إن سياسة الغموض هي التي تعم هياكل وزارة الصحة ومصالحها الداخلية والخارجية وطريق تنظيمها، فكثيرا ما تجد تداخلا بيم الأقسام والوحدات التي تسير دواليب وزارة الصحة ومديرياتها ومندوبياتها. إذ أن بعض الوحدات أو الأقسام لا مبرر لوجودها أو أن بعض الوحدات لاوجود لها رغم أهميتها، فضلا عن نهج سياسة مركزة اتخاذ القرار والتدبير بوزارة الصحة بالرباط، في الوقت الذي كان من المنتظر أن تفوض الوزارة مجموعة من الصلاحيات لفائدة المديريات الجهوية المحدثة مؤخرا، لكن للأسف بدل أن تتحول هذه المديريات إلى وزارات صغيرة بالجهة أضحت مجرد مندوبيات كبيرة تكتفي بأمور بسيطة من قبيل الإشراف على الامتحانات وجمع تقارير المندوبيات قبل إرسالها إلى الوزارة، أو في أهم الأحول تعتبر سلما إداريا يزيد الجهاز البيروقراطي في قطاع الصحة تعقيدا.

كما أن سياسة الاستقلالية التي تتمتع بها المستشفيات الجامعية الكبرى في المغرب (5 مستشفيات)، جعلت منها قلاعا محصنة ضد أي رقابة محلية أو جهوية، وإنما أضافت إلى المسؤولين الإقليميين والجهويين مسؤولا ثالثا لا يسأل محليا وإنما وطنيا، وهو ما يسهم في المزيد من التمركز وإهدارا للجهد وانتقاصا من المؤسسات الجهوية والإقليمية التي ليس بمقدورها الإشراف الكامل على مستشفيات تقع في دائرة ترابها، وتتعرض للنقد بسبب فشلها أو تقصيرها، فهل يمكن تحميل مندوب إقليمي أو جهوي مسؤولية تدهور الصحة العمومية بإقليم ما، دون أن تكون لهما سلطة الإشراف والمراقبة على أهم مؤسساته الصحية وهي المستشفيات الجامعية؟ (وما يعمق من هذه الأزمة أن هذه المستشفيات لا زالت تشرف على بعض المهام التي هي من اختصاص المندوبيات وخاصة المهام ذات المردود المالي من قبيل لجنة الفحص الطبي المخصص لتسليم رخص السياقة، في الوقت الذي نجد فيه مؤسسات من المفروض أن تكون تحت إشراف المراكز الاستشفائية الجامعية من قبيل مصالح المساعدة الطبية المستعجلة SAMU التي لا زالت تحت الإشراف المرتبك للمديريات الجهوية).

ويتجلى الغموض أيضا من خلال تداخل الاختصاصات بين مجموعة من مؤسسات وزارة الصحة، إذ لا زالت بعض المؤسسات مشتركة بين المديريات الجهوية والمندوبيات الإقليمية (من قبيل مراكز الصيانة، ومراكز تحاقن الدم التي وعلى الرغم من أنها تحت إشراف المديريات الجهوية إلا أن مداخليها المالية تتجه نحو المستشفيات الإقليمية) كما أن الحدود المرسومة لكل من المندوب الإقليمي والمدير الجهوي غير مرسمة بشكل محكم، وإنما في كثير من الأحيان تجتهد الأطراف لتحديد المسؤوليات (والدليل على ذلك ما يحصل بخصوص التعيينات الجديدة، إذ وقعت صراعات بين بعض المديرين الجهويين والمندوبين الإقليميين حول من الأحق بأن تمر عبره التعيينات، حيث أن الوزارة ترسل تعيينات مباشرة إلى المندوبيات بينما الصواب أن توجه التعيينات أولا إلى المديريات لكي يعاد توزيعها وفق حاجيات الجهة).

ويعاني قطاع الصحة من خلل كبير في تحديد المسؤوليات والصلاحيات والترسيم القانوني للمهام، فالكثير من المسؤوليات خاصة على مستوى الوحدات والمصالح هي شبه تطوعية وبدون إطار قانوني ينظمها، مما يؤدي إلى عزوف جل الأطر الكفأة عن تحمل المسؤولية وبقاء الكثير من المستشفيات والمصالح بدون مدراء و مسؤولين (صرح وزير الصحة بأن أكثر من 50 مستشفى بدون مدير). فالمسؤولية في قطاع الصحة هي، تقريبا، المسؤولية الوحيدة التي لا يحصل من يتحملها على تعويضات مرسمة وقانونية ومحددة القدر، وإنما تبقى مرتهنة للتحولات السياسية وأمزجة الرؤساء الفاضل من الميزانية. وينطبق الأمر نفسه على التعويضات السنوية لكل موظفي وزير الصحة حيث تسود العشوائية والانتقاء في التوزيع رغم ضآلة هذه التعويضات مما يحدو بالكثير منهم إلى الامتناع عن تلقيها (تصل أحيانا إلى 300 درهم في العام لموظف في السلم 11).

لقد أثرت هذه الاختلالات التنظيمية بشكل واضع على قطاع الصحة من حيث بطء سرعة اتخاذ القرار وتعقيد الإجراءات البيروقراطية وإهدار المال العام في أمور غير ذات أولوية وفي خلق مؤسسات بدون صلاحيات، وتوزيع المسؤوليات عل أكثر من طرف، مما لا يضمن القدرة على المحاسبة أو تحديد المسؤولية، كما تسببت هذه الاختلالات في تراخي المنظومة البشرية كما سنتطرق إلى ذلك لاحقا.

على مستوى البنيات التحتية

يعاني قطاع الصحة في المغرب من نقص مهول في البنيات التحتية الذي سيتكرس أكثر مع دخول مشروع “المساعد الطبية” حيز التطبيق وتكاثر طلبات الاستشفاء. فالمغرب لا يتوفر إلا على 5 مستشفيات جامعية تعاني بدورها من نقص في الوسائل اللوجستيكية أو مشاكل في الصيانة أو نقص في الأطر الصحية (سنتطرق لهذه النقطة بشكل مستقل). فضلا عن عشرات المستشفيات الإقليمية (39 مستشفى متخصص و102 مستشفى عام) و المراكز الصحية (2689 مؤسسة، بمعدل 12000 نسمة لكل مؤسسة في الوسط القروي و 43000 في الوسط الحضري) التي لم تجدد بناياتها و أجهزتها منذ عقود خلت في ظل ضعف الرقابة وانخفاض الميزانيات المخصصة للتسيير والتدبير، خاصة وأن الأسر المغربية تساهم ب 57 في المائة من نفقات العلاج كما صرح بذلك وزير الصحة نفسه، (لا يتوفر المغرب إلا على سرير واحد لكل 1000 نسمة مقابل 2.2 سرير لكل ألف نسمة في تونس و 7 أسرة لكل ألف نسمة في أوربا، ولا تبلغ نسبة الاستشفاء سوى 4.7 % بالمغرب مقابل 14 % في تونس ) بالإضافة إلى غلاء الأدوية حيث تبلغ نسبة الولوج إليها 400 درهم لكل مواطن.

أما آلاف المراكز الصحية المنتشرة بالوسطين الحضري والقروي فهي تشكو من نقص مهول في وسائل التطبيب والأطر الطبية والإدارية (غياب طاقم إداري بجميع المراكز الصحية، حيث الاعتماد على الممرضين والأطباء في التسيير والتطبيب) وفي كثير من الأحيان يغيب عنها الأمن والماء والكهرباء (تعدد حالات الاعتداء على الأطر الصحية من طرف بعض المواطنين)، علاوة على أن مجموعة من المراكز لم تعرف طريقها إلى الاشتغال بسبب نقص في الأطر الصحية أو سوء في توزيعها.

ينضاف إلى هذه المشاكل مشكلة أخرى تتمثل في الفساد الذي ينخر قطاع الصحة المغربي، فالكثير من المساكن الوظيفية تفوت بطريقة غير قانونية أو لمن لا يستحقها، وكثير من الصفقات يشتبه في محاباتها لبعض الشركات وخاصة شركات التموين وشركات النظافة والتموين والصيانة وهو ما يلزمه فتح أكثر من تحقيق. كما لم تفعل وزارة الصحة قرار تحميل مصاريف الماء والكهرباء لمن يشغل السكن الوظيفي وترشيد الطاقة بالمستشفيات، إذ لا تزال الكثير من المندوبيات تتحمل مصاريف الماء والكهرباء التي يستهلكها من يشغل السكن الوظيفي، كما تتحمل المندوبيات والمديريات مصاريف خيالية للماء والكهرباء نتيجة عدم الترشيد أو أعطاب في الأجهزة وهو ما راكم مجموعة من الديون على مختلف الإدارات الصحية قد تصل أحيانا إلى نصف مليار، الشيء الذي كان يمكن تجاوزه لو تحمل شاغلي السكن الوظيفي نفقات الماء والكهرباء ولو تم ترشيد النفقات ومن ضمنها ترشيد استهلالك الماء والكهرباء من قبيل إطفاء الآلات والمكيفات والحواسيب التي لا حاجة إليها وخاصة بالليل، وعدم الاعتماد على الماء الصالح للشرب في سقي الحدائق وغيرها من إجراءات ترشيد النفقات.

أما أسطول السيارات ومنها سيارات الإسعاف، فإنه يعاني من التآكل والتقادم من جهة، ومن جهة ثانية يعاني من عدم استغلاله في المخصص له، فقصص إرسال سيارات الإسعاف بشكل غير قانوني أو استغلال سيارات الدولة في مسائل شخصية كثيرا ما تتكرر على يد العاملين في القطاع، وهو ما يسبب إهدارا للمال العام يجب التوقف عنه.

ويجدر التنويه هنا بمسألة نعتقد أن لها أهميتها، فمن المعلوم أن مهمة المسؤولين الجهويين والإقليميين تتجلى بشكل أساس في الحرص على صحة المواطنين ومراقبة الشؤون الصحية للمستشفيات والمراكز الصحية، وهذا من صميم تخصصهم الدراسي والتكويني. ولكن أن يتم تكليفهم بأمور خارج تخصصهم من قبيل عقد الصفقات والبحث عن الممولين من أجل تجهيز المستشفيات أو ترميمها، فإن ذلك يتعارض و مبدأ “الرجل المناسب في المكان المناسب”، ومن تم وجب التفكير في صيغ حديثة لإعفاء المندوبين والمدراء الجهويين من الانشغال عن صحة المواطنين بأمور لم ينالوا تكوينهم للقيام بها ولا وقت لديهم للقيام بها، فيتحول المندوب من طبيب يفهم في الشؤون الطبية وإداري يدرك حاجيات الأطر الصحية التي تشتغل تحت مسؤوليته، إلى مقاول منشغل بأمور الصفقات.

على مستوى الموارد البشرية

ويبقى أهم عنصر في فشل الوزارة الوصية على صحة المغاربة ما يتعلق بالموارد البشرية، حيث تنقسم أسباب الفشل إلى موضوعية وذاتية، أولا: الأسباب الموضوعية تهم مجموعة من الحقوق المهضومة للعاملين بقطاع الصحة، فهم محرومون من مؤسسة للأعمال الاجتماعية تنهض بأمورهم الاجتماعية وتساعدهم على تحمل جزء من تكاليف العيش، فرغم مرور سنوات على إحداث مؤسسة الحسن الثاني للأعمال الاجتماعية للعاملين بقطاع الصحة، إلا أن الوزارة الوصية لا زالت مترددة في تسمية رئيس لها لكي تخرج إلى حيز الوجود، كما أن التأمين على المخاطر الذي يتقاضونه لا يتناسب وحجم المخاطر التي تحيق بهم (تعاني الأطر العاملة بمراكز تحاقن الدم، مثلا، من غياب أي إجراءات وقائية تحميهم من التعرض للعدوى)، وأما أجور الأطر الصحية، فهي متدنية مقارنة مع المستوى المعيشي المرتفع، ومقارنة بالعاملين بقطاعات أخرى كقطاعي العدل والمالية، ويزيد من الوضع تأزما الظروف المزرية التي يعيش فيها العاملون بالوسط القروي، في ظل غياب مكافآت مجزية ( يصل الفرق أحيانا بين الوسط الحضري والقروي إلى 150 درهما) مما يضطر الكثير منهم إما إلى التغيب عن العمل وإما إلى العمل خارج المؤسسات العمومية وإما الارتماء بين أحضان الارتشاء وما يصاحب ذلك من تأثير على صحة المواطنين.

كما القوانين المعمول بها في القطاع الصحي لا تواكب التطور الذي من المفروض أن تعرفه المنظومة الصحية، إذ لا تزال الكثير من الفئات العاملة بقطاع الصحة في نضال متواصل من اجل تغيير القوانين التي تؤطرها، فالموظفون الحاصلون على الدكتوراه العلمية محرومون من إطار قانوني ينظم عملهم ويحدد اختصاصاتهم، مما يجعلهم عرضة للضياع والتيه داخل دواليب الإدارة ويحرم القطاع من الاستفادة من خبراتهم. والأمر نفسه ينطبق على العاملين المسمون “مساعدون طبيون” فهم منذ سنوات يطالبون الوزارة الوصية بتغيير تسميتهم وتحديد مهامهم، وهو الأمر الذي لن يكلف ميزانية الدولة أي عجز، ولكن عدم الامتثال له يؤثر على العمل نتيجة الإضرابات المتتالية التي تخوضها هذه الفئة من أجل أمر بسيط.

وتبقى أهم فئة مهضومة الحقوق داخل قطاع الصحة، فئة الأعوان وحراس الأمن والمنظفات، فرغم أن الأعوان يتحملون مسؤوليات مهمة وتناط بهم أدوار أساسية إلا أن أجورهم زهيدة تكاد لا تتجاوز الحد الأدنى للأجور إلى بدراهم. ورغم أن قطاع الصحة يعتمد على الشركات الخاصة للنظافة والأمن، إلا أن عدم إلزام تلك الشركات باحترام دفتر التحملات الذي يضمن الحد الأدنى للأجور يجعل فئة الحراس والمنظفات عرضة لجشع الشركات التي توظفهم (قد لا يتجاوز أجر عاملات النظافة 600 درهم في الشهر وحراس الأمن 1200 درهم)، إذ في ظل هذا الوضع تتدهور نظافة المصحات ويغيب الأمن ويتحول الحراس إلى سماسرة أو يزاولون مهام غير مهامهم داخل المستشفيات مقابل دراهم من المواطنين ومنهم من يقوم بأعمال السخرة لفائدة رؤسائهم. والسبب الحقيقي وراء هذه المشاكل هو عدم نزاهة الكثير من صفقات التي تعقد مع الشركات أو عدم كفاية الأموال التي تخصصها الوزارة لفائدة هذه الأعمال، مما يضطر المسؤولين إلى القبول بالشركات التي تتقدم بأقل مقابل وأسوأ خدمة.

غير أن أهم مشاكل قطاع الصحة على الإطلاق هو النقص المهول في الأطر الصحية، ففي بلد يتجاوز عدد سكانه 30 مليون نسمة لا يتجاوز عدد الساهرين على الصحة العمومية فيه 47 ألف موظف، حيث لا يتجاوز عدد الأطباء 46 طبيب لكل 100 ألف نسمة (مقابل 70 في تونس و 300 في فرنسا) 10 ممرضين لكل 10 ألف نسمة. وهو ما يجعل منظمة الصحة العالمية تصنف المغرب من بين 57 دولة تعاني نقصا حادا في الموارد البشرية، إذ يعاني المغرب من خصاص في الميدان الصحي لا يقل عن 6000 طبيب و9000 ممرض (علما أن مؤسسات التكوين الموجودة غير قادرة على استدراك هذا الخصاص، فمثلا لا توجد في المغرب سوى 23 مؤسسة لتكوين الممرضين)، ويزيد من عمق هذه المشكلة سوء التوزيع الأطر الصحية سواء كان هذا الخلل في التوزيع يتعلق بالعدد أوب الكيف، فمن حيث تبقى سمة التفاوت والفارق بين المؤسسات هي الطاغية (مراكز صحية تشتغل بأكثر من 20 إطار صحي بينما تشتغل مراكز أخرى ب أقل من ستة أطر).

أما من حيث نوعية الأطر فإن المعايير المعتمدة في الحركة الانتقالية تبقى عاجزة عن تحقيق الجودة، فعنصر الأقدمية يغرق المستشفيات، ذات الأهمية والموجودة تحديدا بالمدن، بالكثير من الأطر ذات الأقدمية وما يصاحب ذلك من تعب سببته السنون أو أمراض أو تقدم في العمر، بينما يدفع بالفئات الشابة إلى المناطق النائية التي لا تضم إلا مراكز صحية صغيرة. ولذلك وجب التفكير في مراجعة معيار الأقدمية و تشجيع الأطر الصحية على البقاء في المناطق النائية (هذا التشجيع لن يكون بمبلغ 700 درهم التي اقترحتها وزارة الصحة على الممرضين مثلا، أو بسكن وظيفي يتكون من بيت ومطبخ، وإنما ينبغي أن يكون بإجراءات شجاعة تتمثل في مضاعفة الأجر وبسكن وظيفي يليق بإطار صحي يشتغل في ظروف صعبة، وبتطوير البنيات التحتية كالمدارس الجيدة والأسواق والمدارس والطرق وتوفير وسائل النقل وتحسينها، وهذه مهمة الحكومة بجميع قطاعاتها وليست مهمة وزارة الصحة وحدها).

ثانيا- أسباب ذاتية: فنظرا لكل تلك الأسباب التي تطرقنا إليها أعلاه تصاب بعض الأطر الصحية بنوع من الترهل في الأداء وغموض في الأهداف والرؤى في ظل غياب ربط المسؤولية بالحاسبة وتشجيع الرقابة، وفي ظل انعدام الحوافز المادية خاصة في العالم القروي وفي المراكز الصحية، وفي ظل غياب قوانين تمنع اشتغال الأطر الطبية للقطاع العام بالقطاع الخاص (ونحن نخط هذه الأسطر اطلعنا على الدورية الوزارية التي تمنع عمل الأطر الطبية بالقطاع الخاص، وإن كنا لا ننتظر الكثير من هذه الخطوة لأن الأمر أكبر من مجرد دورية ويستدعي حزمة من الإصلاحات منها ما يتعلق بوزارة الصحة ومنهما ما يتعلق بالإصلاح السياسي والديمقراطي والاقتصادي بالمغرب). كما أن التأخر في إصدار قانون ينظم الحق في الإضراب جعل القطاع الصحي بشكل خاص عرضة للكثير من الإضرابات العشوائية وغير المنضبطة لا لمصلحة الموظف ولا لمصلحة المواطن، خاصة مع التشرذم النقابي الذي يطبع العمل النقابي بالقطاع، فإلى جانب تعدد النقابات تحتشد الكثير من الفئات المهنية ضمن هيئات خاصة بها، وكل هيئة تحدد أيام إضرابها بمعزل عن أي تنسيق، فمثلا تجد في قطاع الصحة، هيئة للتقنيين وأخرى للمتصرفين وثالثة للمهندسين ورابعة للمساعدين الطبيين وخامسة للأطباء وسادسة للمرضين وسابعة للأعوان وثامنة للحاصلين على الدكتورة العلمية. وهو ما يضرب في العمق فلسفة العمل النقابي وأهدافه وأسسه (هذه الأزمة مشتركة بين جميع القطاعات).

يضاف إلى المشاكل الذاتية والموضوعية غياب رؤية مبنية على مقاييس علمية من شأنها الرفع من مستوى مردودية الموارد البشرية، من خلال توزيعها بشكل جيد بين الجهات والأقاليم والمستشفيات، وعبر إعادة النظر في قياس العمل المنضبط. فالاستمرار في اعتبار الموظف المثالي هو الذي يدخل في الوقت ويخرج في الوقت لا يخدم قطاع الصحة في أي شيء، في غياب الحوافز المعنوية والمادية وفي غياب سياسة الجودة والمردودية، فما معنى أن يحضر الموظف إلى مكان عمله من غير أداء مهامه بشكل جيد، وما الذي يجنيه المواطن من تواجد طبيب في علمه من دون كفاءة وتكوين مستمر (في تركيا ، مثلا، يتم اعتماد عدد المرضى الذين يعالجون من طرف الطبيب هو المقياس لأداء رابته أو تعويضاته، فضلا عن تعويضات مُجزية للأطباء المبدعين، كما نتذكر هنا ما قاله المدير العام لشركة الطيران الفرنسية من أنه لا يرى موظفيه إلا مرتين في السنة، الأولى عندما يعرضون عليه تصورهم للعمل والثانية عندما يتقدمون إليه بالنتائج).

وعلى سبيل الختم، يمكن القول بأن أسباب فشل القطاع الصحي بالمغرب ليست كلها مذكورة في ما تطرقنا إليه، بل الأكيد أن هناك أسبابا أخرى يجب أن تسلط عليها الأضواء. ولكن ما نحرص على الإلحاح عليه هو أن إرادة سياسية قوية، فاعلة وحقيقية هي الكفيلة بتحقيق نهضة صحية للمغاربة تجعلهم مطمئنين على أبدانهم لكي يتفرغوا إلى تحقيق التنمية المتوخاة. ونتصور أن أهم حلقة في مسلسل إصلاح الصحة هي حلقة العنصر البشري، فالذي يُنزل السياسة الصحية التي تنهجها وزارة الصحة على أرض الواقع هو الموظف، الذي هو الوسيط بين الوزارة والمواطن، ولذلك وجب الاهتمام بالعنصر البشري وإيلائه الأهمية والتفكير في حاجياته المادية ومواكبته بالتكوين اللازم والمتطور والمبني على رؤية إستراتيجية وعلمية على أن يشمل كافة الأطر الصحية بما فيها الأطر الإدارية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: