النظام الصحي في المغرب من المجد إلى الحضيض

جنوحي

«عندما أنشئت وزارة الصحة المغربية في أول حكومة مغربية منتصف الخمسينات، فإنها لم توكل إلى طبيب مغربي إلا في التعديل الحكومي الذي جاء بعد أشهر على تعيين الحكومة، لتصبح وزارة الصحة بين يدي طبيب يهودي مغربي درس الطب بالخارج، لكن التجربة لم تعمر طويلا، لتوضع الصحة بين أيدي أناس بعيدين تماما عن الطب في وقت كانت الوزارة تتوفر على أطباء أجانب، اكتسحوا المجال وبقوا يشتغلون في المغرب لسنوات طويلة إلى أن تخرجت الأجيال الأولى من الأطباء المغاربة، الذين درسوا الطب في فرنسا.
بعد كل هذا، جاء التحول الذي عصف بخدمات وزارة الصحة، وارتبط مصيرها بما عرفه المغرب من انتكاسات سياسية وضعف في أداء بعض الحكومات، التي أوصلت المغرب إلى ما أسمته المعارضة في تسعينات القرن الماضي «السكتة القلبية».

هؤلاء تسابقوا على تأسيس مستشفيات بالمغرب منذ 1919
كانت فرنسا تشجع أطباءها على ممارسة المهنة في المغرب، في إطار خطة رامية إلى توفير الخدمات الصحية للمواطنين الفرنسيين الذين اختاروا الإقامة بالمغرب، وتشجيع الفرنسيين عموما على الاستقرار والاستثمار أيضا.
كان تحدي خدمات الإدارة قائما بقوة بعد سنة 1912، وتم التركيز على الرباط، وطنجة نسبيا، لإقناع الجالية الفرنسية الأولى على الاستقرار في المغرب.
تاريخيا، كانت محاولة ما قبل سنة 1907، هي المرة الأولى التي فكرت خلالها فرنسا في الاستثمار في قطاع الصحة من خلال وضع تسهيلات لأطباء فرنسيين وإسبان قصد إنشاء عياداتهم الخاصة في الدار البيضاء. وفي الفترة نفسها كانت مدينة طنجة وفاس قد عرفتا بداية استقرار أطباء أجانب، وفتحوا عياداتهم لاستقبال مرضى أغلبهم أجانب. وعند قصف مدينة الدار البيضاء عسكريا في السنة ذاتها، وجدت فرنسا صعوبة في إقناع أطباء آخرين على الاستقرار بالمغرب، بحكم أنها عجزت سابقا عن توفير الحماية الجسدية لرعاياها الفرنسيين الذين قتلوا في تلك الأحداث.
لكن مرحلة ما بعد 1907، والتي ضمنت فيها فرنسا وجود حماية أمنية كبيرة لرعاياها في المغرب، شكلت بداية جديدة لتأسيس عدد من العيادات الخاصة لأطباء فرنسيين، أصبحوا بسرعة أصدقاء لنخبة الأثرياء المغاربة وأسسوا لطبقة مخملية جديدة بالرباط والدار البيضاء، فيما بدأت الحياة الفرنسية تخبو في فاس.
أما في طنجة، فقد كان أطباء من جنسيات أخرى يحظون بتقدير كبير ووفروا العلاج للمغاربة بمقابل مادي طبعا، قبل أن تتأسس المستشفيات ويتعرف المغاربة لأول مرة على الرعاية الطبية في مستشفيات كانت إدارتها قد آلت إلى أطباء فرنسيين وأحيانا إلى أطباء عسكريين.
أول مستشفى نظامي خططت له فرنسا، كان خلال عشرينات القرن الماضي، وكان موجها بالأساس إلى رعاية الجالية الفرنسية التي كانت في ازدياد. وكان المقيم العام ليوطي، قد احتفل قبيل تقاعده حيث أوصى بأن يُدفن في المغرب، بوجود جالية كاملة من الفرنسيين الذين وجدوا أن الإقامة العامة حاولت فعلا أن توفر لهم كل متطلبات الحياة داخل المغرب.
تأسيس المستشفيات الأولى مكن المغاربة من التعرف على التقدم الطبي الفرنسي، رغم أن المقاومة سنة 1953 شنت حملات لمهاجمة مستشفى الرباط، حيث كان مخططا إلقاء قنبلة في بيت رئيس المستشفى والإدارة أيضا، رغم أن بعض المرضى داخله كانوا مغاربة. وحسب أرشيف «Le petit Marocain»، فإن الأمن الفرنسي قد اعتقل سنة 1953 مشتبها في التخطيط لوضع قنبلة في قلب المستشفى بمدينة الرباط، لتفجير غرفة استراحة الممرضات الفرنسيات والأطباء المناوبين داخل المشفى، الذي كان يوفر خدمات للمصابين في صفوف الأمن الذين استهدفتهم المقاومة.
سُجلت أيضا في الأرشيف عملية ضد طبيب فرنسي ذبح من طرف مجهول، كان يعمل في إدارة مستشفى الرباط وكان سابقا يتوفر على عيادة خاصة. العملية نفذت في نونبر 1938، وكان وقتها قد سجل سخط كبير بحكم أن الطبيب كان يوفر خدمات مجانية للمرضى، وبينهم مغاربة.
جدير بالذكر أن أول طبيب فرنسي جاء إلى المغرب، كان قد حل بمدينة فاس، خلال فترة حكم المولى الحسن الأول، ووجد أن أطباء من جنسيات أخرى، خصوصا الإنجليز، قد سبقوه إلى العيش في المغرب منذ سنة 1890، وحاولوا تأسيس عيادات خاصة بهم، حتى أن طبيبا بريطانيا كان يوزع الأدوية مجانا على المرضى في مدينة فاس، وتم استقباله في القصر الملكي وعرض رسميا على المغرب تأسيس مستشفى على شاكلة المصحات الأوربية لتقديم خدمات طبية للمغاربة مجانا.

لماذا تدهورت الخدمات الطبية في المغرب؟
في سنوات الثمانينات، كان إدريس البصري، وزير الداخلية، يجمع صحافيين مغاربة بالرباط ليلقي عليهم محاضرة رسمية تعكس مقاربة الداخلية بخصوص مقالات صحفية نشرت عن وضعية المستشفيات. كان وزير الصحة وقتها يجلس بجانب وزير الداخلية، الذي انفرد بالكلمة في مواجهة الصحافيين وأبان بوضوح عن انزعاجه من فضح الوضعية الكارثية للمستشفيات واتهم الصحافيين بالعدمية.
كان هذا جانبا فقط من مقاربة «الداخلية» في ذلك الوقت في التعامل مع شكاوى تدهور قطاع الصحة.
كانت الاختلالات في إدارة المستشفيات، وحالات الإغلاق التي عرفتها مستشفيات عاشت فترتها الذهبية قبل سنة 1956، أي قبل الاستقلال، كلها مؤشرات على تراجع جودة الخدمات الصحية في المغرب.
مداخلات المعارضة في البرلمان منذ 1963، والتي استؤنفت بعد افتتاح البرلمان مرة أخرى خلال السبعينات، كلها كانت تفضح تراجع الخدمات الصحية في المغرب وشكاوى المواطنين من حرمانهم من الخدمات الصحية وعجز البعض عن تسديد تكاليف عمليات جراحية، كانت تقدم بالمجان في «الفترة الذهبية» للمستشفيات العمومية المغربية.
مستشفى بن صميم الذي لا يزال إلى اليوم بناية مهجورة، ومستشفى منطقة الريش الذي كان يتوفر على نظام تدفئة وضعه مهندس فرنسي في خمسينات القرن الماضي، كلها مؤشرات تدل على أن الصحة عاشت أحلك سنواتها في ظل الإدارة المغربية وليس الاستعمارية. مستشفى بن صميم تعرض للإغلاق قبل عقود، وهو اليوم بناية مهجورة تماما ودليل على مجد كبير منقرض، وقد سجلت تساؤلات كثيرة بخصوص ظروف إغلاقه وضرورة افتتاحه من جديد في وجه المرضى. لكن لم يتم الإعلان عن أية خطوة رسمية لتحريك الملف ونفض الغبار عنه.
منذ حكومة 1956، كانت وزارة الصحة من الوزارات السيادية، حتى أن الملك الراحل محمد الخامس أوكل الوزارة إلى طبيب كان يعرفه جيدا، وهو الدكتور بنزاكين. وكان الملك الراحل قد دافع عن اسم هذا الطبيب لكي يكون على رأس وزارة الصحة عند أول تعديل حكومي عرفه المغرب في تاريخه الحديث. هذا الطبيب كان يعتبر وقتها أول تجربة مغربية ناجحة في الطب، رغم أنه درسه في فرنسا واحتك بكبار الجراحين الفرنسيين.
سرعان ما أصبحت حقيبة وزارة الصحة مسيسة، خصوصا أمام دعوات حزب الاستقلال إلى تفويت الوزارة لوزير استقلالي. في حكومات الستينات كانت وزارة الصحة في طور العمل على توسيع شبكات المستشفيات العمومية المغربية والمستوصفات وتعيين أطباء في القطاع العمومي. وكانت الميزانيات المرصودة، حسب أرشيف بعض المداخلات البرلمانية للاتحاديين، تسائل الدولة عن مصير معدات طبية، اختفت في ظروف غامضة. وهو ما شكل بداية تراجع خدمات وزارة الصحة، وتفاقم الأمر مع الانفجار الديموغرافي الذي عرفه المغرب خلال التسعينات.
معركة الأطباء المتدربين ومعارك أطر الصحة بشكل عام، ورفض دفعة السنة الماضية، للتعيينات في المناطق النائية، كلها مؤشرات تؤكد أن المجد الذي عاشه قطاع الصحة في السابق، والوضع الحالي للمستشفيات العمومية، وحجم الشكاوى التي استقبلتها الوزارة في السنتين اللتين تؤرخان لفترة الحكومة الحالية، كلها تؤكد أن الأمور ليست على ما يرام في قلب «قلعة» الصحة.

تقرير يعود لسنة 1948 أثنى على مستشفيات الاستعمار ووصف صحتنا بـ«الكارثية»
نحن الآن في العام 1948، وصل إلى مدينة الرباط وفد مصغر لمواطنين فرنسيين قدموا أنفسهم على أنهم أساتذة جامعيون باحثون في مجال «الصحة». بينما هم في الحقيقة منتمون لتنظيم سري وجلهم تلقوا تكوينا في الولايات المتحدة وسويسرا، لإحصاء اليهود في مختلف الدول، خصوصا في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط وتقديم دراسة لوضع مخطط ترحيل لتأسيس إسرائيل.
بعض قدماء اليهود المغاربة أقروا فعلا بوجود هذه اللجنة السرية، وبعض شهاداتهم توثق فعلا لوجود لجان عاينت أحياء الملاح في كل من فاس والرباط ومراكش ومدن أخرى، حيث قاموا بإحصاء العائلات وظروف عيشها وإمكاناتها المادية وعدد الأبناء، ووضعوا مقاربات للتحولات التي كان ممكنا أن تطرأ على تلك العائلات في ظرف عشر سنوات على الأقل، وهي المدة التي فصلت بين المعاينة وبدء عمليات الترحيل.
للتمويه، قدم هذا الوفد أوراقا لدراسة كانت مضامينها حقيقية، استعملت كغطاء لتبرير أنشطته حتى لا تنكشف مهمته السرية. وهذه الدراسة كانت ترمي إلى وضع تصور أولي لقطاع الصحة في المغرب في ظل الحماية الفرنسية. ونقطة القوة في هذه الدراسة، التي استغرقت ستة أشهر وشملت مختلف مناطق المغرب الذي كانت به إدارات فرنسية، أنها تجاوزت الطبقات أو العينات التي كانت تستفيد من خدمات الإدارة الفرنسية في مجال الصحة، لتصل إلى تشخيص وضعية الطبقات الشعبية والمهمشة، داخل محيط المدن التي كانت في الحقيقة خاضعة إداريا وأمنيا لنفوذ إدارة الدولة الحامية.
لم يكن ممكنا وقتها الحديث عن مستشفيات مغربية، بحكم أن المغرب كان يعيش في ظل الاستعمار، وهكذا فإن التقرير لم يحمل المغاربة أية مسؤولية في الوضع الكارثي للصحة. شخصّ هذا التقرير وفيات كثيرة في صفوف الرضع وفي صفوف الأمهات الحوامل، وأنذر بسهولة وقوع عدوى قاتلة وموجات حمى معدية تصل حد التسبب السريع في الوفاة. وهذه المعطيات اعتمدت في وضع تصور ترحيل اليهود المغاربة لاحقا، حيث لوحظ أنهم خضعوا لعمليات تلقيح وعزل في مخيمات خاصة فور ترحيلهم قبل إدماجهم في المجتمع اليهودي الجديد، وهذه العملية تمت بناء على هذه الدراسة حتى لا تقع كوارث صحية قد تسبب وفيات بشكل جماعي.
كانت فرنسا تعرف سلفا مضامين هذه الدراسة، ليس بالاطلاع عليها، ولكن لأن الإدارة الفرنسية كانت فعلا تتوفر على تقارير سرية عسكرية وأخرى تابعة لمستشفياتها بالمغرب، وكلها تصف الوضع الصحي داخل المغرب بالكارثي، لكنها تثني على مستشفياتها وتصنف خدماتها بالممتازة. وهذا الأمر كان صحيحا في ذلك الوقت. إذ إن المستشفيات المتوفرة وقتها كانت خدماتها جيدة جدا، بينما التقرير كان يتناول وضعية المغاربة الذين لم تسبق لهم الاستفادة من أي خدمات صحية، والذين كانوا يعيشون خارج حسابات الإدارة أصلا.

من «المجد» والمجانية.. إلى الحضيض
اشتغل الأطباء الفرنسيون الأوائل الذين عملوا في قطاع الصحة منذ بداية القرن الماضي، في ظروف أقل ما يقال عنها إنها بدائية جدا، لكنها رغم ذلك تؤرخ لعصر ذهبي في الصحة، التي استفاد المغاربة من خدماتها المجانية تماما منذ بداية الثلاثينات في المدن الكبرى كالدار البيضاء والرباط. لكن أرشيف المستشفيات التي ورثها المغرب بعد سنة 1956 تعرض للضياع في ظروف غامضة، وهو ربما ما يفسر الصعوبة التي طالت البحث التاريخي في بدايات الطب بالمغرب.
لا بأس هنا أن نُذكر ببعض النقاط التي سبق لنا تناولها في التنقيب عن بعض أسرار «تاريخ المستشفيات» في مغرب الحماية. تروي بعض المصادر الرسمية، في أرشيف وزارة الدفاع الفرنسية وحتى في الإقامة العامة التي كانت تابعة للحكومة الفرنسية بشكل مباشر، أن الطب عرف منعرجات كثيرة، خصوصا أن تأسيس القطاع مر بمرحلة سرية مع خلف المقيم العام ليوطي خلال الثلاثينات، ليصل إلى مرحلة الخدمات التي استفاد منها المغاربة خلال سنوات الأربعينات، وتأثر بما مرت به البلاد من أحداث.
المثير أيضا، أن بدايات الطب، القديمة بطبيعة الحال، في المغرب تستدعي العودة إلى الدول التي سبقت الدولة العلوية لمعرفة خصوصيات اهتمامها بالصحة وعلاج الأمراض، وهي مهمة شبه مستحيلة تاريخيا لندرة المراجع التاريخية. لكن ما يهم أن فترة الدولة العلوية وحدها، عاش فيها الطب مخاضا كبيرا قبل المد الاستعماري الذي غير كل شيء وجعل الطب بشكله العصري ممكنا، لكن بعد أن كتبت تقارير سوداء عن الواقع الصحي في المغرب منذ ذلك الوقت.
في فترة الاستعمار أي منذ العشرينات إلى ما بعد سنة 1956 بقليل، كان الطب أجنبيا، وكانت المستشفيات وقتها قد أنشئت لاستقبال الأجانب الذين كانوا يتوافدون بشكل مضطرد يوميا، وسرعان ما بدأت في استقبال المغاربة بدورهم، في أماكن خصصت لهم داخل هذه المستشفيات.
فيما خصصت فرنسا حملات طبية في السنوات التي عمت فيها الأوبئة والمجاعات خلال الأربعينات والثلاثينات من القرن الماضي، ونشرت الأطباء في ربوع البلاد لاحتواء الأوبئة حتى لا تصل إلى رعاياها الفرنسيين وجنودها، وهكذا طوقت القرى والأسواق الأسبوعية وجعلت العلاج إجباريا. وهذا يعني أن المستشفيات لم تكن متاحة للمغاربة في ذلك الوقت، بل كانت الوحدات الطبية تتنقل عبر الخيام لتقديم العلاج الإجباري، ولم يكن هناك أي طبيب مغربي ضمن الخلايا، حتى أن الممرضات كن فرنسيات أيضا. لكن بقدوم سنوات الخمسينات، تطورت الأمور بشكل إيجابي وبدأ الجيل الأول من المغاربة يلتحق بالمستشفيات للعمل في مساعدة الأطباء الفرنسيين، بالإضافة إلى عينة أخرى من المساعدين الذين دخلوا المشافي للعمل كمساعدين أو في مطبخ المستشفى، ليتحولوا إلى مساعدة الممرضات ويتعلموا كيفية إعطاء الحقن للمرضى، ويتحولوا إلى ممرضين بعد فترة من التجربة في المستشفيات.
حتى عندما أنشئت وزارة الصحة المغربية في أول حكومة مغربية منتصف الخمسينات، فإنها لم توكل إلى طبيب مغربي إلا في التعديل الحكومي الذي جاء بعد أشهر على تعيين الحكومة، لتصبح وزارة الصحة بين يدي طبيب يهودي مغربي درس الطب بالخارج، لكن التجربة لم تعمر طويلا لتوضع الصحة بين يدي أناس بعيدين تماما عن الطب في وقت كانت الوزارة تتوفر على أطباء أجانب، اكتسحوا المجال وبقوا يشتغلون في المغرب لسنوات طويلة إلى أن تخرجت الأجيال الأولى من الأطباء المغاربة، الذين درسوا الطب في فرنسا.
بعد كل هذا، جاء التحول الذي عصف بخدمات وزارة الصحة، وارتبط مصيرها بما عرفه المغرب من انتكاسات سياسية وضعف في أداء بعض الحكومات، التي أوصلت المغرب إلى ما أسمته المعارضة في تسعينيات القرن الماضي «السكتة القلبية». وقتها وصل قطاع الصحة إلى الحضيض، وكانت صحف المعارضة ما بين الثمانينات والتسعينات تصف وضعية المستشفيات بالكارثية، مسجلة عدم كفاية الأسرّة داخل المستشفيات لعدد المرضى وعجز عائلات بأكملها عن الوصول إلى التطبيب المجاني، مسجلة حسرة كبيرة على زمن «الاستعمار».

علبة أسرار مؤسسي المستشفيات الذين اتهموا لاحقا بـ«التنصير»
في منطقة أزرو وغيرها من المناطق المغربية البعيدة عن محور الرباط والدار البيضاء، والتي عرفت وجودا فرنسيا عسكريا أيام الحماية، تم تأسيس مستشفيات اكتسبت صيتا واسعا في أوساط المغاربة، خصوصا في نواحي فاس ومكناس، وصولا إلى المغرب الشرقي.
وهذه المستشفيات التي لا تزال أنقاض بعضها قائمة إلى اليوم، تؤرخ في الحقيقة لفترة ذهبية من تاريخ المستشفيات المغربية.
لم يكن عددها يتجاوز تسعة مستشفيات في العموم، لكنها كانت تشتغل وفق معايير دولية وتحترم شروط السلامة وجودة الخدمات، والأهم أنها كانت مجانية مائة بالمائة.
مخطط بداية إدماج المغاربة البسطاء في خدمات قطاع الصحة كان مخططا طُبخ في قلب الإقامة العامة، في خطوة لكسب تعاطف المغاربة وأيضا لبداية تطويق الأوبئة التي كانت تهدد الصحة العامة للمواطنين الفرنسيين المقيمين في المغرب.
البداية كانت بفتح باب قسم الولادة في وجه أمهات مغربيات، حصلن على الرعاية من راهبات فرنسيات كن يشتغلن بشكل دائم في مستشفى منطقة أزرو، الذي كان يحمل اسم عسكري فرنسي قبل أن يحمل اسم المنطقة ويتغير اسمه بعد الاستقلال بضغط من مسؤولي حزب الاستقلال، الذين دافعوا عن ضرورة التخلي عن الأسماء الفرنسية في الشوارع والإدارات.
هذا المستشفى كان ينسق مع كنيسة استضافت راهبات فرنسيات كن يشرفن على دور رعاية توفر الغذاء والمبيت لأبناء الفقراء المغاربة، وكن يعملن بالموازاة مع ذلك على رعاية المرضى في المستشفى، وأشرفن على تكوين المولدات المغربيات الأوليات اللواتي تم إلحاقهن بوزارة الصحة المغربية في نسختها الأولى بعد سنة 1956.
عاشت الصحة المغربية أزهى فتراتها مع الراهبات، إذ كانت الخدمات مجانية وتوفر رعاية لم يكن السواد المغاربة يحصلون عليها في بيوتهم. وتم تسجيل بعض حملات التبرع بالدم في صفوف المغاربة، خلال الأشهر الأولى للاستقلال، وحققت نجاحا واسعا وانخرط فيها المغاربة بحكم أنها كانت توفر لكل متبرع وجبة مجانية، بالإضافة إلى مبلغ بسيط شجع الأغلبية على المشاركة.
كانت هذه المستشفيات توفر تطبيبا مجانيا وأسرّة مُريحة وغذاء منتظما للمرضى المغاربة، الذين لم يكونوا يغادرون المستشفيات إلا بعد التماثل الكلي للشفاء. وحسب أرشيف الصليب الأحمر الدولي، فإن المغاربة خلال فترة الخمسينات، أي قبل الحصول على الاستقلال والسنوات القليلة بعده، لم يكونوا يستفيدون من عمليات جراحية معقدة، وإنما كانوا يستفيدون من حملات التلقيح والتطبيب المجاني، الذي كان الغرض منه تطويق الأوبئة والأمراض مثل تعفن الجروح والتشوهات الناتجة عن الحريق أو الحوادث، وليس إجراء العمليات المعقدة، رغم أن الراهبات عملن على رعاية بعض المعاقين المغاربة، بل ووفرن وجبات غذائية مجانية لمرضى فقر الدم، خصوصا أثناء مجاعة سنة 1952.
نجد أن بعض المحسوبين على الحركة الوطنية، نشروا في صحف مثل «العلم» والرأي، وبعض مؤلفات نخبة مؤسسي الحركة الوطنية وخصوصا من حزب الشورى، مقالات متحاملة على هذه المراكز وطالبوا بضرورة العمل على خلق مستشفيات مغربية لوقف هيمنة الفرنسيين على القطاع، خصوصا بوجود راهبات بمنطقة أزرو والحاجب وفاس، وإفران، وميدلت في اتجاه المغرب الشرقي، واتهامهن بإلقاء خطب على المرضى تنشر في أوساطهم معتقدات الدين المسيحي وتدعو صراحة إلى اعتناق المسيحية. هذه التهمة وُجهت إلى فرنسا في منطقة الأطلس، واتهمت أيضا في الجزائر بنشر المسيحية في مناطق معزولة، حيث تم إغراء السكان بخدمات صحية مجانية من خمس نجوم.

«متطوعون» أجانب صنعوا مجد «الصحة» و«أنقذونا» من الهلاك
في مأساة زلزال أكادير سنة 1960، وقبلها في مأساة الزيوت المسمومة التي كانت أكبر كارثة صحية في تاريخ المغرب حتى الآن، بحكم أنها مست حياة 10 آلاف مغربي وأثارت انتباه القائمين على الصحة العالمية وعلى رأسهم منظمة الصليب الأحمر، سجل المغرب ملفين صحيين لا يزالان إلى اليوم يمثلان «مجد» الخدمات الصحية في المغرب.
في صيف سنة 1956، سُجلت كارثة الزيوت المسمومة التي استعان فيها المغرب المستقل بخدمات أطباء سويسريين وألمان لاكتشاف سر انتشار الوباء الصامت بسرعة مهولة، وسط آلاف سكان الأحياء الشعبية بمدينة مكناس. علامات الوباء كانت تتمثل في العجز التام وشلل الأطراف. واشتبه في البداية أن يكون الوباء قد انتشر من خلال المياه. وقتها وضعت مئات الخيام لاستقبال المصابين، الذين عجز مستشفى مكناس عن استيعابهم.
وضع الصليب الأحمر عرباته الطبية المتنقلة بمحاذاة الأحياء وفتحت أبواب المدارس التي تركتها فرنسا وراءها، وتحولت إلى مكان لمبيت المرضى الذين كانوا يتلقون العلاج الأولي في انتظار معرفة سبب الوباء.
عندما تم تحليل زيت الطبخ من طرف أحد الأطباء الذي انتبه إلى لونه غير العادي، تم الانتباه فورا إلى سبب الكارثة. وهكذا ضاعف الصليب الأحمر السويسري والألماني من عدد الممرضات، وتم بدء جلسات ترويض للمصابين بشلل في الأطراف، وقدمت لهم وجبات مجانية لأشهر. وعندما مر عام على الكارثة أعلن الصليب الأحمر بداية انسحابه جزئيا، وترك للحكومة المغربية في عهد الملك الراحل محمد الخامس لوائح المصابين وتقارير مفصلة عن مراحل العلاج ووضعيتهم بدقة ولوائح بالأسماء والصور وإعانات مجانية من الأدوية وأشواط جلسات الترويض وأحواض السباحة وآليات الترويض، لكن الكارثة أن بعض عمليات الاختلاس شملت تلك المعدات، ليفاجأ المرضى باختفائها فور تسلم مسؤولي الصحة المغاربة لإدارة تلك المصالح التي تركها أطباء الصليب الأحمر خلفهم.
في كارثة زلزال أكادير لفبراير 1960، والتي تعد إلى اليوم كارثة إنسانية بكل المقاييس، أنشأ الصليب الأحمر الفرنسي مستشفيات متنقلة وأنزلت وحدات الجيش من مختلف الدول على رأسها هولندا، ألمانيا وفرنسا، معدات طبية متطورة وضعت رهن إشارة الذين تم إنقاذهم من الأنقاض.
أجريت عمليات جراحية معقدة، وتسلم المستشفى الكبير لمدينة أكادير، والذي كان مديره فرنسيا، وكان وقتها، أي سنة 1960، لا يزال يتوفر على أطر طبية فرنسية وممرضات فرنسيات أيضا، معدات طبية كثيرة لإجراء عمليات جراحية لإنقاذ المصابين بتشوهات وجروح خطيرة. بعض الحالات نقلت إلى فرنسا، لكنها اقتصرت على الأطفال الذين فقدوا ذويهم، حيث حصلت عليهم أسر أوربية رغبت في تبنيهم، بينما حصل الباقون على رعاية طبية داخل المستشفيات، وهو ما كان ثورة طبية حقيقية في مغرب الاستقلال، لم يفت الملك الراحل محمد الخامس أن يشير إليها بفخر في إحدى خطبه عند انتهاء كارثة الزلزال، بحيث سجلت حالات إنقاذ كثيرة وتماثل المصابون للشفاء وبقيت الأغلبية تستفيد من رعاية طبية في المراكز الاستشفائية التي أحدثت في الخيام واستمرت لأشهر بعد الزلزال. وبعد بناء مستشفى جديد بأكادير بعد الزلزال، استمر تقديم الخدمات الطبية المجانية للمصابين وبقية المواطنين الوافدين، لتسجل الفترة الذهبية للخدمات الصحية بالمغرب بعد الاستقلال، قبل أن تتغير أمور كثيرة في القطاع ويصبح التذمر والشكايات ضد إدارة المستشفيات العمومية المغربية هو «عنوان» المرحلة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: