هل يتجه النزاع المغربي الإسباني إلى التدويل؟

بولحية

إن كان جزء من الأوروبيين على الأقل يقف مع الإسبان ظالمين أو مظلومين، فمن يمكنه إذن أن يدعم الطرف الآخر في النزاع معهم، أي المغرب؟ حتى الآن ما تدل عليه المواقف والبيانات الرسمية، أن منظمات أو هيئات إقليمية كالبرلمان العربي ومجلس التعاون الخليجي والأمانة العامة لمنظمة التعاون الإسلامي، هي من تصطف إلى جانب الرباط.
ويبدو ذلك في سياق الرد على قرار البرلمان الأوروبي عملا متوازنا ومعقولا. لكن من يمكنه المضي بعيدا في دعم الموقف المغربي، والمخاطرة بوضع علاقاته مع إسبانيا ومن ورائها أوروبا على كف عفريت؟ حتى إن بدا الأمر للوهلة الأولى صعبا وغير مؤكد، فإن الثابت أن المغرب لا يعدم الأصدقاء الذين قد يقفون معه في مرحلة ما، لا التزاما بما تفرضه عليهم صداقته من واجب، بل حرصا بالدرجة الأولى على الحفاظ على مصالحهم في المنطقة، وعدم ترك المجال لخصومهم للتصرف هناك بانفراد.
وبغض النظر عما إذا كان الرئيس الأمريكي جو بايدن قد تحدث الاثنين الماضي مع رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز على هامش قمة الناتو في بروكسل حول ذلك الملف، أم لا، فإن طريقة التحرك الأمريكي في الخلاف بين الجارتين تبقى محددا مهما لطبيعة المواقف، وردود الأفعال الإقليمية والدولية المقبلة حوله. غير أن ذلك لا يعني أن التطورات التي ستحصل في غضون الأسابيع المقبلة ستسير حتما وبالضرورة في اتجاه واحد، ولن تكون مفتوحة على أكثر من احتمال. ولعل تصوير، للأزمة على أنها تجمّع «قارة في مواجهة دولة» في إشارة إلى بيان البرلمان الأوروبي الخميس الماضي قد يبدو في خضم ذلك المعطى، إما نوعا من اللعن المتسرع للمستقبل، أو على العكس شكلا من أشكال التهوين، وسوء التقدير للأبعاد الواسعة التي قد يأخذها المشكل. فمن يستطيع الجزم بأن الخلاف الذي بدأ ثنائيا ثم صار أوروبيا سيبقى بعدها بالضرورة ضمن تلك الأطر الإقليمية، التي تسعى مدريد لحصرها فيه؟ ومن يضمن أنه لن يكون له على المدى القصير، أو البعيد طابع دولي أوسع من ذلك؟ ثم من يستطيع أن يؤكد من الآن أن ذلك النزاع لن يفرز بالنهاية حلفين متقابلين أحدهما يؤيد المغرب، والآخر يدعم الإسبان، ضمن رؤيتين مختلفتين للمصالح، وتصورين متناقضين تماما لما يفترض أن تكون عليه التوازنات في المستقبل، بين جنوب أوروبا وشمال افريقيا؟ إن إعادة الأمور إلى نصابها، وإرجاع العلاقات الإسبانية المغربية إلى سالف وضعها، سيُسقط بلا شك جانبا كبيرا من تلك التساؤلات، لكن هل سيكون من البساطة والسهولة أن يحصل ذلك؟ وكيف سيتم الأمر؟ ومن سيدفع بالأخير ثمن أي تسوية مرتقبة قد تنزع فتيل أزمة دولية قد تنشب بين لحظة وأخرى في الشمال الافريقي؟

طريقة التحرك الأمريكي في الخلاف بين إسبانيا والمغرب تبقى محددا مهما لطبيعة المواقف، وردود الأفعال الإقليمية والدولية المقبلة

ليس من الهين أبداً على الإدارة الأمريكية الحالية أن تلعب دور الحكم، أو الوسيط مثلما فعلته إدارة الرئيس الأسبق بوش، قبل ما يقرب من عشرين عاما من الآن، حين قامت بتطويق الأزمة التي نشبت بين الجارتين بسبب ما عرف حينها بقضية صخرة ليلى المغربية، لما فرضت على الجانبين تسوية قبلت بمقتضاها مدريد أن تسحب قواتها وتنزل علمها من المنطقة، مقابل تعهد الرباط بابقائها خالية من أي مظهر من مظاهر السيادة المغربية عليها. ومن الغريب حقا أن يذهب البعض حد تصور أن مكالمة هاتفية بين وزيري خارجية أمريكا وإسبانيا، أو لقاءً قصيراً وعابراً بين بايدن وسانشيز سيكونان كافيين لقلع الأزمة من جذورها، أو أن يتوهم آخرون أن كتابة السطر الأخير للأزمة ستتم فقط حين يفرض الرئيس الأمريكي على رئيس الوزراء الإسباني تسوية يذعن بمقتضاها بشكل كامل وغير مشروط للمطالب المغربية. إن انتظار شيء من ذلك سيكون تجاهلا كبيرا لتشعب الملف، ولحرص الإسبان وجزء من الأوروبيين، على الأقل، على أن لا يخرج من بين أيديهم، وأن يظل محصورا في أبعاده الإقليمية، بما يدعم سيطرة الاتحاد الأوروبي واستمرار نفوذه على منطقة يراها حيوية واستراتيجية بالنسبة له. فضلا عن أن غياب تهديد قوي يمكن أن يدفع الأمريكيين لإقحام أنفسهم هناك بشكل مباشر، يجعل ذلك الأمر بلا معنى. ولأجل ذلك فإنه سيكون من غير المتوقع أن تنزل واشنطن بثقلها لدعم بلد عربي أو مغاربي، مهما كان مستوى علاقاتها معه، على حساب بلد أوروبي أو أطلسي مهما كانت درجة اختلافها معه حول بعض القضايا والمسائل. وأقصى ما قد تفعله بالمقابل، أنها قد تسهل جلوس الطرفين إلى طاولة الحوار، وتعرض عليهما حزمة من الأفكار، أو خطوطا عريضة، أو حتى ورقة عمل تكون منطلقا للمسار التفاوضي بينهما. لكن هل سيكون مسك العصا من الوسط مجديا؟ أم أنه من الضروري أن يستعيد الأمريكيون دور الشرطي، الذي يفرض النظام في منطقة تبدو الآن هادئة، لكن لا أحد يضمن أن تستمر كذلك، إن تفاقمت الأزمة، ولم تطوق في الوقت المناسب وبالشكل الملائم.
إن الوعي بأن صمت قوى دولية أخرى لا يعني بالضرورة أنها لا تهتم بما يجري في ذلك الجزء من العالم، يفتح المجال أمام الحسابات، فالروس والصينيون لن يكتفوا بمتابعة أطوار الخلاف المغربي الإسباني، إن خرج عن حد معين. ولعل البعض سيرى فقط في البيان الذي صدر الاثنين الماضي مثلا عن جمعية الصداقة الصينية المغربية، وعبرت فيه عن «تضامنها الكامل واللامشروط مع المغرب في دفاعه عن وحدته الترابية، ومن أجل استرجاع مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين» نوعا من الجعجعة الفارغة، لكن تأمل فقرة فيه أشارت إلى أن «الشركات الصينية والفاعلين الاقتصاديين والماليين الصينيين مستعدون للانخراط في مسلسل التنمية في إقليم المملكة من طنجة إلى الكويرة» قد يعطي انطباعا معاكسا، بل قد يشير إلى أن الطموحات الصينية في المنطقة ربما تدفع بكين في حال وصول الأزمة إلى منعرج آخر، لأن تدخل بطريقة ما على الخط، حتى إن كانت عدة عوامل كعلاقتها هي والروس بالجارة الشرقية، أي الجزائر، تجعل من تلك الفرضية مستبعدة وترجح بقاءها على الحياد. واللافت هنا هو أن الجيران الأقربين للرباط، لا يزالون منكفئين ومترددين وعاجزين، لاعتبارات شتى، حتى عن إصدار بيان رمزي للتضامن معها، في مواجهة دولة أوروبية تواصل احتلال جزء من ترابها. وربما عكس الحرج الذي شعرت به وزيرة الخارجية الليبية الجمعة الماضي، وهي تؤكد في ختام كلمتها في مؤتمر صحافي مع نظيرها المغربي، على تمسك ليبيا بالدعوة لقمة مغاربية، نوعا ما ذلك. لكن كيف سيتصرفون إن توسعت الأزمة وتم تدويلها؟ وفي صف من سيقفون؟ ما تدركه الرباط جيدا هو أنهم لن يكونوا، وللأسف الشديد، ومثلما هو مفترض ضمن حلقة الأصدقاء. وهذا قد يكون في حد ذاته أقسى ما تخرج به من أزمتها مع الإسبان.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: