كيف سينتهي خلاف مدريد والرباط؟

نزار بولحية

هل مازال ممكنا تطويق الأزمة؟ أم أن كرة الثلج التي تدحرجت بسرعة بين العاصمتين قد كبرت الآن وتوسعت، لدرجة بات يصعب معها أن تتوقف عن اندفاعها المحموم نحو المجهول؟ رسميا لا تزال خطوط الاتصال بين مدريد والرباط مقطوعة.. ولا شيء يدل حتى الساعة على أن الوضع سيكون، على الأقل خلال الأيام القليلة المقبلة، مخالفا لذلك.
كما أن لا شيء يوحي أيضا بأن هناك رغبة، أو إرادة واضحة في أن تستثمر العلاقات العريقة بين العرشين، أو الروابط الشخصية بين العاهلين فيليب السادس ومحمد السادس، كقاطرة دفع أخيرة باتجاه تحقيق اختراق حقيقي، يجعل الأزمة التي دخلت شهرها الثاني قوسا مغلقا، إما بشكل تام أو ظرفي.
ورغم ما يروج بقوة داخل بعض الأوساط، عن وجود ترتيبات لتنظيم زيارة وشيكة للعاهل الإسباني، أو لمسؤول بارز في حكومة بيدرو شانشيز إلى الرباط، فلا يبدو أن الانحسار الملحوظ في حدة التصريحات من الجانبين، والمحاولات الحثيثة التي يبذلانها لخفض النبرة، والتقليل قدر الإمكان من حدة التصعيد بينهما، وحالة الهدوء النسبي في مواقفهما، قد تعكس حقيقة ما يجري في الكواليس من مناورات وصراعات، وما تواجهه مساعي وجهود أكثر من طرف إقليمي، وربما حتى دولي من صعوبات وعقبات وتعقيدات في الوصول لتحقيق نتائج ملموسة للتقريب بين الطرفين. لكن كيف سيكون المآل النهائي لكل ذلك؟ وإلى أين تسير علاقة البلدين؟ ثم هل يمكن أن يكون ما سيقرره البرلمان الأوروبي غدا الخميس مؤشرا ولو ضئيلا عن قرب انتهاء الأزمة، أم دليلا على العكس على أنها ستطول ربما لاكثر مما هو متوقع؟ وبعبارة أخرى هل سيصب البرلمانيون الأوروبيون مزيدا من الزيت على نار الخلاف الإسباني المغربي، بإصدارهم قرارا يدين المغرب لأنه «انتهك اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل، واستخدم القُصّر في أزمة الهجرة إلى سبتة» مثلما يطالب بذلك قسم منهم على الأقل؟ أم أنهم سيحاولون تحكيم العقل وكبح جماح بعض الأحزاب الإسبانية والأوروبية، التي تدفع بقوة نحو ذلك، مفضلين التعامل مع الملف بشيء من الحذر والواقعية، من خلال تجنب إظهار أي اصطفاف صريح قد يفهم منه، أن الأوروبيين اختاروا الانحياز بالكامل لإسبانيا في نزاعها مع جارتها الجنوبية، مهما كانت ظالمة، أم مظلومة، وصمموا بالمقابل على أن يقطعوا خط الرجعة على أي مساع أو محاولات لإعادة المياه إلى مجاريها بينها وبين جارتها الجنوبية؟ بالنسبة لرئيس مجلس النواب المغربي فإن مجرد طرح مشروع قرار مماثل على التصويت، يبدو أمرا مدهشا ومخيبا للآمال، إذ يؤكد الحبيب المالكي في تصريحات صحافية، أدلى بها الأحد الماضي في العاصمة المغربية، على أن تلك الخطوة «تندرج في إطار محاولات لصرف الانتباه عن أزمة ثنائية خالصة بين المغرب وإسبانيا» وأن الأزمة بين البلدين «ليست مرتبطة بالهجرة، وإنما بدخول شخص متابع أمام العدالة الإسبانية لارتكابه جرائم جسيمة ضد ضحايا إسبان بطرق احتيالية» على حد وصفه، قبل أن يشدد على أن «توظيف قضية الهجرة، ولاسيما قضية القاصرين غير المرفوقين في هذا السياق، أشبه بمناورة تهدف إلى إضفاء بعد أوروبي على أزمة ثنائية» قائلا إنه «يأسف لاستغلال واقعة استثنائية، وإقحامها في شراكة يضطلع فيها المغرب بدور نموذجي» لكن كيف تفهم خطوة كتلك إن تمت بالفعل؟ فهل ستكون رغم طابعها الرمزي، وغير الملزم للدول الأوروبية، صرخة في واد، أو تعبيرا ظرفيا عن أحقاد دفينة لبعض الأحزاب القومية واليمينية الإسبانية والأوروبية تجاه المغرب؟ أم أنها ستتحول إلى أداة أخرى للضغط عليه، حتى يقبل بمخرج للأزمة مع الإسبان وفقا للشروط التي سيضعونها لأجل تحقيق تلك الغاية؟

لاتزال خطوط الاتصال بين مدريد والرباط مقطوعة.. ولا شيء يدل على أن الوضع سيكون على الأقل قريبا مخالفا لذلك

في كلا الحالتين فإنه بات معلوما أن أقوى سلاح ظلت تشهره مدريد في كل مواجهة تجمعها بالرباط، هو السلاح الأوروبي. ولأجل ذلك فإنه لم يكن مفاجئا لأحد، أن تسارع لاستخدامه منذ الأيام الأولى لبدء خلافها الأخير معها. لقد اعتاد الإسبان على الاحتماء بالمظلة الأوروبية، بغض النظر عن الظرف، أو عن طبيعة موازين القوى بينهم وبين جارتهم في الجنوب. ولعل الحكومات الإسبانية المتعاقبة وعلى اختلاف ألوانها، كانت أفضل من طبّق المقولة الشهيرة للجنرال ديغول وهو يوصي القائد العسكري الفرنسي في حرب بنزرت، بأن يضرب بقوة وسرعة على أي نزاع أو خلاف، أو مواجهة مع المغرب. وليس بعيدا عن الأذهان ما حصل خلال ما عرف بأزمة جزيرة ليلى المغربية سنة 2002. فالطريقة الهوليوودية، التي ردت بها مدريد في ذلك الوقت على انتشار عشرة جنود مغاربة فحسب على تلك الصخرة، وهم يحملون أسلحة خفيفة لا غير، كانت بالفعل أشبه بالضرب القوي والسريع لكن غير المتكافئ، أو المتوازن بالمرة. غير أنها لم تكتف حينها بذلك فحسب، بل سعت لجر الاتحاد الأوروبي وراءها، وإرسال رسالة مزدوجة لجهتين، الأولى للمغاربة لتلوح لهم بأنها مصممة على أن لا تتساهل أمام أي انتهاك لما تعتبره سيطرتها المطلقة على المنطقة، حتى لو كان وضع تلك الجزيرة، أو الصخرة متنازعا عليه، والثانية للأوروبيين وخلاصتها هي، أن عليهم أن يدركوا أنها هي من تنوب عنهم في مواجهة أي تهديدات أو طموحات قد تظهر في الضفة الأخرى. وهكذا فقد استطاعت الحصول في ذلك الوقت على بيان من الاتحاد يدعو المغرب إلى «الانسحاب فورا» من الصخرة، من دون أن يكون لأعضائه قدر من الوعي، أو الاستيعاب للوضع القانوني لها، أو لما جرى فيها بالضبط. ومن الواضح أن ذلك تقريبا هو ما يتكرر الآن في الأزمة الجديدة بين البلدين، ولو بوجود بعض الفوارق والاختلافات المهمة. والمعطى الأبرز هنا، هو أن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس، كما قال وزير الخارجية المغربي في ذروة التصعيد بين الجانبين، وهو ما يجعل الرباط وعكس ما كان يحصل في السابق تذهب بعيدا لتقول للأوروبيين هذه المرة، وبلغة لم يعتادوا سماعها من قبل، إنها لن تكون شرطيا يحمي حدودهم. وهو ما يعطي انطباعا بأنه لن يكون بوسع المغاربة أن يقبلوا بأي تسوية قد تعرض عليهم، بل سيسعون للحصول على أكثر من مجرد عودة العلاقات مع إسبانيا، لما كانت عليه قبل الأزمة. ولن يعني ذلك بالطبع أنهم سيشترطون الآن على إسبانيا أن تغير موقفها من الصحراء، أو أن تفتح معهم مفاوضات حول البلدات والجزر المحتلة. فنجاحهم في انتزاع التزام واضح منها بأن ترفع يدها عن الملف الصحراوي، وأن لا تقف حجر عثرة بوجه مساعيهم لدفع الأوروبيين لمراجعة موقفهم من تلك المسألة، سيعد في حد ذاته كسبا ثمينا يستطيعون البناء عليه. أما كيف سيكون موقف الإسبان؟ فلعله لن يكون سهلا عليهم تقديم أي تنازل، رغم أن ذلك يبقى بالنسبة لهم أهون ألف مرة من تحمل الضرر الفادح الذي يلحقهم جراء استمرار الأزمة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: